قوله عز وجل:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا .
هذا استمرار في عتبهم وإقامة حجة الله عليهم، المعنى: أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول [ ص: 372 ] كسائر الرسل، وقد بلغ كما بلغوا، ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة، وليست حياة الرسول وبقاؤه بين أظهركم شرطا في ذلك، لأن الرسول يموت كما مات الرسل قبله. و"خلت" معناه: مضت وسلفت، وصارت إلى الخلاء من الأرض.
وقرأ جمهور الناس "الرسل" بالتعريف، وفي مصحف "رسل" دون تعريف، وهي قراءة ابن مسعود: حطان بن عبد الله، فوجه الأولى تفخيم ذكر الرسل والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله تعالى، ووجه الثانية أنه موضع تفسير لأمر النبي عليه السلام في معنى الحياة، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك فيجيء تنكير "الرسل" جاريا في مضمار هذا الاقتصاد به صلى الله عليه وسلم، وهكذا يفعل في مواضع الاقتصاد بالشيء، فمنه قوله تعالى: وقليل من عبادي الشكور وقوله تعالى: وما آمن معه إلا قليل إلى غير ذلك من الأمثلة. ذكر ذلك أبو الفتح، والقراءة بتعريف الرسل أوجه في الكلام.
وقوله تعالى: "أفإن مات"... الآية، دخلت ألف الاستفهام على جملة الكلام على الحد الذي يخبر به ملتزمه، لأن أقبح الأحوال أن يقولوا: إن مات محمد أو قتل انقلبنا، فلما كان فعلهم ينحو هذا المنحى وقفوا على الحد الذي به يقع الإخبار. وقال كثير من المفسرين: ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها، لأن الغرض إنما هو: تنقلبون على أعقابكم إن مات محمد; فالسؤال إنما هو عن جواب الشرط.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وبذلك النظر الذي قدمته يبين وجه فصاحة الألف على الشرط، وذلك شبيه بدخول ألف التقريب في قوله: أولو كان آباؤهم ونحوه من الكلام، كأنك أدخلت التقرير على ما ألزمت المخاطب أنه يقوله. والانقلاب على العقب يقتضي التولي عن [ ص: 373 ] المنقلب عنه. ثم توعد تعالى المنقلب على عقبه بقوله تعالى: فلن يضر الله شيئا لأن المعنى: فإنما يضر نفسه وإياها يوبق. ثم وعد الشاكرين وهم الذين صدقوا وصبروا ولم ينقلب منهم أحد على عقبيه بل مضى على دينه قدما حتى مات، فمنهم وتقضي بذلك وصيته إلى سعد بن الربيع الأنصار، ومنهم أنس بن النضر، ومنهم الأنصاري الذي ذكر عنه بسند أنه مر عليه رجل من الطبري المهاجرين والأنصاري يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل، فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فهؤلاء أصحاب النازلة يومئذ صدق فعلهم قولهم،. ثم يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم القيامة. قال معنى ابن إسحاق: وسيجزي الله الشاكرين أي من أطاعه وعمل بأمره. وذكر بسند عن الطبري وذكر غيره: أنه قال في تفسير هذه الآية: الشاكرون : الثابتون على دينهم، علي بن أبي طالب وأصحابه، وكان يقول: أبو بكر أمير الشاكرين. أبو بكر
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذه عبارة من رضي الله عنه إنما هي إلى صدع علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذه الآية في يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم وثبوته في ذلك الموطن، وثبوته في أمر الردة، وذلك أبي بكر رضي الله عنه أن النبي لم يقبض، فقام بخطبته المشهورة المخوفة للمنافقين برجوع النبي عليه السلام، ففت ذلك في أعضاد المنافقين وتفرقت كلمتهم، ثم جاء عمر بعد أن نظر إلى النبي عليه [ ص: 374 ] السلام فسمع كلام أبو بكر فقال له: اسكت، فاستمر عمر في كلامه فتشهد عمر فأصغى الناس إليه، فقال: أما بعد فإنه من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد أبو بكر محمدا فإن محمدا قد مات، وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وتلا الآية كلها، فبكى الناس ولم يبق أحد إلا قرأ الآية كأن الناس ما سمعوها قبل ذلك اليوم، قالت رضي الله عنها في عائشة فنفع الله بخطبة البخاري: ثم بخطبة عمر أبي بكر. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبض وشاع موته، هاج المنافقون وتكلموا، وهموا بالاجتماع والمكاشفة، أوقع الله تعالى في نفس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فهذا من المواطن التي ظهر فيها شكر وشكر الناس بسببه. أبي بكر
ثم أخبر تعالى عن النفوس أنها إنما تموت بأجل مكتوب محتوم واحد عند الله تعالى، أي فالجبن لا يزيد فيه، والشجاعة والإقدام لا تنقص منه، وفي هذه الآية قال تقوية النفوس للجهاد، وفيها تسلية ما في موت النبي عليه السلام والعبارة بقوله: "وما كان" قد تجيء فيما هو ممكن قريب نحو قول ابن فورك: رضي الله عنه: "ما كان أبي بكر الصديق أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. لابن أبي قحافة
وقد تقع في الممتنع عقلا نحو قوله: ما كان لكم أن تنبتوا شجرها فهي عبارة لا صيغة لها ولا تتضمن نهيا كما يقول بعض المفسرين، وإنما يفهم قدر معناها من قرائن الكلام الذي تجيء العبارة فيه. و "نفس" في هذه الآية: اسم الجنس، والإذن: التمكين من الشيء مع العلم بالشيء المأذون فيه، فإن انضاف إلى ذلك قول فهو الأمر. وقوله: "كتابا" نصب على التمييز، و"مؤجلا" صفة. المعتزلة في قولهم بالأجلين. وأما الانفصال عن تعلقهم بقوله تعالى: وهذه الآية رادة على ويؤخركم إلى أجل مسمى ونحو هذا من الآيات; فسيجيء في مواضعه إن شاء الله تعالى.