ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم
[ ص: 427 ] "نملي" معناه: نمهل ونمد في العمر، والملاوة: المدة من الدهر، والملوان الليل والنهار، وتقول: ملاك الله النعمة أي: منحكها عمرا طويلا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "يحسبن" بالياء من أسفل وكسر السين وفتح الباء، وقرأ ونافع: كذلك إلا في السين فإنه فتحها، وقرأ ابن عامر "تحسبن" بالتاء من فوق وفتح السين، وقرأ حمزة عاصم كل ما في هذه السورة بالتاء من فوق إلا حرفين: قوله: والكسائي ولا يحسبن الذين كفروا في هذه الآية، وبعدها "ولا يحسبن الذين يبخلون" فأما من قرأ "ولا يحسبن" بالياء من أسفل فإن "الذين" فاعل، وقوله: "أنما نملي لهم خير" بفتح الألف من "أنما" ساد مسد مفعولي "حسب"، وذلك أن "حسب" وما جرى مجراها تتعدى إلى مفعولين أو إلى مفعول يسد مسد مفعولين، وذلك إذا جرى في صلة ما تتعدى إليه ذكر الحديث والمحدث عنه. قال وكسر "إن" في قول من قرأ: "يحسبن" بالياء لا ينبغي، وقد قرئ فيما حكاه غير أبو علي: أحمد بن موسى وفي غير السبع، ووجه ذلك أن "إن" يتلقى بها القسم كما يتلقى بلام الابتداء، ويدخلان على الابتداء والخبر، أعني "اللام" و"إن" فعلق عن "إنما" عمل الحسبان كما تعلق عن اللام في قولك: حسبت لزيد قائم، فيعلق الفعل عن العمل لفظا، وأما بالمعنى فما بعد "إن أو اللام" ففي موضع مفعولي حسب، و"ما" يحتمل أن تكون بمعنى الذي، ففي "نملي" عائد مستكن، ويحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى تقدير عائد. وأما من قرأ "ولا تحسبن" بالتاء من فوق فـ "الذين" مفعول أول للحسبان. قال وينبغي أن تكون الألف من "إنما" مكسورة في هذه القراءة، وتكون "إن" وما دخلت عليه في موضع المفعول الثاني لـ "تحسبن"، ولا يجوز فتح الألف من "إنما" لأنها تكون المفعول الثاني، والمفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول بالمعنى، والإملاء لا يكون إياهم. قال أبو علي: في مشكله: ما علمت أحدا قرأ: "تحسبن" بالتاء من فوق وكسر الألف من "إنما". وجوز مكي هذه القراءة "تحسبن" بالتاء و "أنما" بفتح الألف، وظاهر كلامه أنها تنصب "خيرا" قال: وقد قرأ بها خلق كثير وساق عليها مثالا قول الشاعر: الزجاج
[ ص: 428 ]
فما كان قيس هلكه هلك واحد . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . .
بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فكذلك يكون "أنما نملي" بدلا من "الذين كفروا" كقوله تعالى: وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وقوله: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ويكون "خيرا" المفعول الثاني.
قال لم يقرأ هذه القراءة أحد، وقد سألت أبو علي: أحمد بن موسى عنها فزعم أنه لم يقرأ بها أحد. ويظهر من كلام أن أبي علي أبا إسحاق إنما جوز المسألة مع قراءة "خير" بالرفع، وأبو علي أعلم لمشاهدته أبا إسحاق. وذكر قوم أن هذه القراءة تجوز على حذف مضاف تقديره: ولا تحسبن شأن الذين كفروا أنما نملي لهم، فهذا كقوله تعالى: واسأل القرية وغير ذلك. ويذهب الأستاذ أبو الحسن بن البادش: إلى أنها تجوز على بدل "أن" من "الذين" وحذف المفعول الثاني لحسب، إذ الكلام يدل عليه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والمسألة جائزة إذ المعنى: لا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيرا لهم أو نحو هذا.
ومعنى هذه الآية: الرد على الكفار في قولهم: إن كوننا ظاهرين ممولين أصحة، دليل على رضى الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده، فأخبر الله أن ذلك التأخير والإمهال إنما هو إملاء واستدراج، ليكتسبوا الآثام، وقال ما من نفس برة [ ص: 429 ] ولا فاجرة إلا والموت خير لها، أما البرة فلتسرع إلى رحمة الله، وقرأ عبد الله بن مسعود: "وما عند الله خير للأبرار"، وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثما، وقرأ هذه الآية. ووصف العذاب بالمهين معناه: التخسيس لهم، فقد يعذب من لا يهان، وذلك إذا اعتقدت إقالة عثرته يوما ما.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين ...الآية فقال مجاهد وابن جريج وغيرهم: الخطاب للمؤمنين، والمعنى: وابن إسحاق بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء في ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين مشكلا أمرهم، يجري المنافق مجرى المؤمن، ولكن ميز بعضهم من بعض، أحد من الأفعال والأقوال. وقال قتادة الخطاب للكفار، والمعنى: حتى يميز المؤمنين من الكافرين بالإيمان والهجرة. وقال والسدي: وغيره: السدي قال الكفار في بعض جدلهم: أنت يا محمد تزعم في الرجل منا أنه من أهل النار، وأنه إذا اتبعك من أهل الجنة، فكيف يصح هذا؟ ولكن أخبرنا بمن يؤمن منا وبمن يبقى على كفره، فنزلت الآية، فقيل لهم: لا بد من التمييز وما كان الله ليطلعكم على الغيب فيمن يؤمن ولا فيمن يبقى كافرا ولكن هذا رسول مجتبى فآمنوا به. فإن آمنتم نجوتم وكان لكم أجر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وأما مجاهد وأهل القول الأول، فقولهم في تأويل قوله تعالى: وابن جريج وما كان الله ليطلعكم على الغيب إنه في أمر أحد، أي: ما كان الله ليطلعكم على أنكم تهزمون، فكنتم تكعون ونحو هذا. وأيضا فما كان ليطلعكم على المنافقين تصريحا بهم وتسمية لهم، ولكن هذا بقرائن أفعالهم وأقوالهم في مثل هذا الموطن.
و"حتى" في قوله: "حتى يميز" غاية مجردة، لأن الكلام قبلها معناه: الله يخلص ما بينكم بابتلائه وامتحانه حتى يميز.
[ ص: 430 ] وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر "حتى يميز" بفتح الياء وكسر الميم وتخفيف الياء، وكذلك "ليميز"، وقرأ وعاصم: حمزة "حتى يميز" و"ليميز الله" بضم الياء والتشديد. والكسائي:
قال يعقوب بن السكيت: مزت وميزت: لغتان بمعنى واحد. قال وليس ميزت بمنقول من مزت، بدليل أن ميزت لا يتعدى إلى مفعولين وإنما يتعدى إلى مفعول واحد كمزت، كما أن "ألقيت" ليس بمنقول من "لقي" إنما هو بمعنى أسقطت. أبو علي:
والغيب هنا: ما غاب عن البشر مما هو في علم الله من الحوادث التي تحدث، ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس. قال وغيره: روي أن بعض الكفار قال: لم لا يكون جميعنا أنبياء؟ فنزلت هذه الآية. و"يجتبي" معناه: يختار ويصطفي، وهي من جبيت الماء والمال، وباقي الآية بين والله المستعان. الزجاج