[ ص: 264 ] قوله عز وجل:
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون
"الذين" في هذه الآية يراد بهم الأحبار والرؤساء، قال : الويل شدة الشر، وقال الخليل : الويل القبوح، وهو مصدر لا فعل له، ويجمع على ويلات، والأحسن فيه -إذا انفصل- الرفع، لأنه يقتضي الوقوع ويصح النصب على معنى الدعاء، أي ألزمه الله ويلا. الأصمعي
وويل، وويح، وويس، وويب، تتقارب في المعنى، وقد فرق بينها قوم، وروى ، سفيان ، أن الويل في هذه الآية واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار، وروى وعطاء بن يسار ، أبو سعيد الخدري ، وقال عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه واد في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا أبو عياض : إنه صهريج في جهنم. وروى رضي الله عنه عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبل من جبال النار ، وحكى عن آخرين أنه باب من أبواب جهنم. و ( الذين يكتبون ) هم الأحبار الذين بدلوا التوراة، وقوله "بأيديهم" بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم الله. الزهراوي
[ ص: 265 ] وفرق بين من كتب وبين من أمر، إذ المتولي للفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله، وإن كان رأيا له، وقال ابن السراج : هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم.
والذي بدلوا هو صفة النبي صلى الله عليه وسلم ليستديموا رياستهم ومكاسبهم، وقال : كانت صفته في التوراة أسمر ربعة فردوه ابن إسحاق آدم طويلا، وذكر أنهم كانوا يكتبون كتبا يبدلون فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم ويبيعونها من الأعراب ، ويبثونها في أتباعهم، ويقولون: هي من عند الله. وتناسق هذه الآية على التي قبلها يعطي أن هذا الكتب والتبديل إنما هو للأتباع الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرئ لهم. السدي
والثمن قيل: عرض الدنيا، وقيل: الرشا والمآكل التي كانت لهم، ووصفه بالقلة إما لفنائه، وإما لكونه حراما. وكرر الويل لتكرار الحالات التي استحقوه بها، و"يكسبون" معناه من المعاصي والخطايا، وقيل: من المال الذي تضمنه ذكر الثمن.
وقوله تعالى لن تمسنا النار الآية، روى وغيره، أن سببها ابن زيد، ويقال: إن السبب أن اليهود قالت: إن الله تعالى أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل، قاله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود : "من أهل النار"؟ فقالوا: نحن، ثم تخلفوننا أنتم، فقال لهم: "كذبتم، لقد علمتم أنا لا نخلفكم" ، فنزلت هذه الآية. ، ابن عباس ، وقتادة . وعطاء
[ ص: 266 ] وقالت طائفة: قالت اليهود : إن في التوراة أن طول جهنم مسيرة أربعين سنة، وأنهم يقطعون في كل يوم سنة، حتى يكملوها وتذهب جهنم، وقال أيضا، ابن عباس ، ومجاهد ، إنهم قالوا: إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن الله تعالى يعذبهم بكل ألف سنة يوما. و"أتخذتم" أصله: أئتخذتم، وزنه أفتعلتم من الأخذ، سهلت الهمزة الثانية لامتناع جمع همزتين فجاء "أيتخذتم"، فاضطربت الياء في التصريف جاءت ألفا في "ياتخذوا"، وواوا في موتخذ، فبدلت بحرف جلد ثابت وهو التاء وأدغمت، فلما دخلت في هذه الآية ألف التقرير استغني عن ألف الوصل. ومذهب وابن جريج "أن اتخذتم" من تخذ لا من أخذ، وقد تقدم ذكر ذلك. أبي علي
وقال أهل التفسير: العهد من الله تعالى في هذه الآية الميثاق والموعد، وقال وغيره: معناه هل قلتم لا إله إلا الله، وآمنتم، وأطعتم، فتدلون بذلك، وتعلمون أنكم خارجون من النار؟ فعلى هذا التأويل الأول يجيء المعنى: هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون؟ وعلى التأويل الثاني يجيء: هل أسلفتم عند الله أعمالا توجب ما تدعون؟ ابن عباس
وقوله: فلن يخلف الله عهده اعتراض أثناء الكلام.
و"بلى" رد بعد النفي، بمنزلة نعم بعد الإيجاب، وقال الكوفيون : أصلها "بل" التي هل للإضراب عن الأول، وزيدت عليها الياء ليحسن الوقف عليها، وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام بما يأتي بعدها. وقال : هي حرف مثل "بل" وغيره، وهي في هذه الآية رد لقول بني إسرائيل : سيبويه لن تمسنا النار ، فرد الله عليهم، وبين أن و"من" شرط في موضع رفع بالابتداء و"أولئك" ابتداء ثان و"أصحاب" خبره، والجملة خبر الأول، و"الفاء" موطئة أن تكون الجملة جواب الشرط. وقالت طائفة: السيئة: الشرك ،كقوله الخلود في [ ص: 267 ] النار والجنة بحسب الكفر والإيمان. ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار والخطيئات كبائر الذنوب، وقال قوم "خطيئته" بالإفراد، وقال قوم: السيئة هنا الكبائر وأفردها وهي بمعنى الجمع لما كانت تدل على الجنس، كقوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله والخطيئة: الكفر، ولفظة الإحاطة تقوي هذا القول، وهي مأخوذة من الحائط المحدق بالشيء. وقال ، الربيع بن خيثم ، والأعمش ، وغيرهم: معنى الآية: مات بذنوب لم يتب منها، وقال والسدي أيضا: مات على كفره، وقال الربيع ، الحسن بن أبي الحسن : كل ما توعد الله عليه بالنار فهي الخطيئة المحيطة. والسدي
والخلود في هذه الآية على الإطلاق والتأبيد في المشركين، ومستعار بمعنى الطول في العصاة، وإن علم انقطاعه كما يقال: ملك خالد، ويدعى للملك بالخلد.
وقوله تعالى: والذين آمنوا الآية يدل هذا التقسيم على أن قوله: من كسب سيئة الآية، في الكفار، لا في العصاة، ويدل على ذلك أيضا قوله: "وأحاطت" لأن فلم تحط به خطيئته، ويدل على ذلك أيضا أن الرد كان على كفار ادعوا أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة، فهم المراد بالخلود، والله أعلم. العاصي مؤمن