ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين
الكتاب: القرآن، و مصدق لما معهم يعني التوراة، وروي أن في مصحف "مصدقا" بالنصب، و"يستفتحون" معناه أن بني إسرائيل كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد علموا خروجه بما عندهم من صفته وذكر وقته، وظنوا أنه منهم، فكانوا إذا حاربوا أبي بن [ ص: 281 ] كعب الأوس والخزرج فغلبتهم العرب قالوا لهم: لو خرج النبي الذي قد أظل وقته لقاتلناكم معه، واستنصرنا عليكم به، و"يستفتحون" معناه يستنصرون، وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين ، وروي أن قريظة والنضير ، وجميع يهود الحجاز في ذلك الوقت كانوا يستفتحون على سائر العرب ، وبسبب خروج النبي المنتظر كانت نقلتهم إلى الحجاز وسكناهم به، فإنهم كانوا علموا صقع المبعث، وما عرفوا أنه محمد عليه السلام وشرعه، ويظهر من هذه الآيات العناد منهم، وأن كفرهم كان مع معرفة ومعاندة، و"لعنة الله": معناه: إبعاده لهم وخزيهم لذلك، واختلف النحاة في جواب "لما" و"لما" الثانية في هذه الآية، فقال : جوابهما في قوله: "كفروا"، وأعيدت لما الثانية لطول الكلام، ويفيد ذلك تقريرا للذنب، وتأكيدا له، وقال أبو العباس المبرد : لما الأولى لا جواب لها، للاستغناء عن ذلك بدلالة الظاهر من الكلام عليه. الزجاج
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فكأنه محذوف.
وقال : جواب لما الأولى في الفاء وما بعدها، وجواب لما الثانية "كفروا" وبيس أصله بئس سهلت الهمزة ونقلت إلى الباء حركتها، ويقال في بئس: بيس، [ ص: 282 ] إتباعا للكسرة وهي مستوفية للذم، كما نعم مستوفية للمدح. واختلف النحويون في "بيسما" في هذا الموضع، فمذهب الفراء أن "ما" فاعلة ببيس، ودخلت عليها بيس كما تدخل على أسماء الأجناس والنكرات لما أشبهتها "ما" في الإبهام، فالتقدير على هذا القول: "بيس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا"، كقولك: بيس الرجل زيد، و "ما" في هذا القول موصولة، وقال سيبويه : "ما" في موضع نصب على التمييز كقولك: بيس رجلا زيد، فالتقدير: بيس شيئا أن يكفروا، و الأخفش اشتروا به أنفسهم ، في هذا القول صفة "ما". وقال : بيسما بجملته شيء واحد ركب، كحبذا، وفي هذا القول اعتراض لأنه فعل يبقى بلا فاعل، و "ما" إنما تكف أبدا حروفا. وقال الفراء : "ما" و"اشتروا" بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، فالتقدير: بيس اشتراؤهم أنفسهم أن يكفروا. وهذا أيضا معترض; لأن بيس لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى الضمير. وقال الكسائي أيضا: إن "ما" في موضع نصب على التفسير، وثم "ما" أخرى مضمرة، فالتقدير: بيس شيئا ما اشتروا به أنفسهم، و الكسائي أن يكفروا في هذا القول بدل من "ما" المضمرة، ويصح في بعض الأقوال المتقدمة أن يكون أن يكفروا في موضع خفض بدلا من الضمير في "به"، وأما في القولين الأولين فـ أن يكفروا ابتداء وخبره فيما قبله.
و"اشتروا" بمعنى باعوا، يقال شرى واشترى بمعنى باع وبمعنى ابتاع، و ( ما أنزل الله ) يعني به القرآن، ويحتمل أن يراد به التوراة، لأنهم إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهما [ ص: 283 ] السلام فقد كفروا بالتوراة، ويحتمل أن يراد به الجميع من توراة وإنجيل وقرآن، لأن الكفر بالبعض يلزم الكفر بالكل و"بغيا" مفعول من أجله، وقيل: نصب على المصدر، و أن ينزل نصب على المفعول من أجله، أو في موضع خفض بتقدير: بأن ينزل، وقرأ ، أبو عمرو : "أن ينزل" بالتخفيف في النون والزاي. و وابن كثير من فضله يعني من النبوة والرسالة. من يشاء يعني به محمدا صلى الله عليه وسلم، لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم، وكان من العرب ، ويدخل في المعنى عيسى صلي الله عليه وسلم لأنهم قد كفروا به بغيا، والله قد تفضل عليه.
و "باؤوا": معناه مضوا متحملين لما يذكر أنهم باؤوا به، و"بغضب" معناه من الله تعالى، لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم على غضب متقدم من الله تعالى عليهم، قيل: لعبادتهم العجل، وقيل: لقولهم: عزير ابن الله، وقيل: لكفرهم بعيسى عليه السلام، فالمعنى: على غضب قد باء به أسلافهم، حظ هؤلاء منه وافر بسبب رضاهم بتلك الأفعال وتصويبهم لها.
وقال قوم: المراد بقوله: بغضب على غضب التأكيد، وتشديد الحال عليهم، لأنه أراد غضبين معللين بقصتين. و"مهين" مأخوذ من الهوان، وهو ما اقتضى الخلود في النار، لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين إنما عذابه كعذاب الذي يقام عليه الحد لا هوان فيه، بل هو تطهير له. وقوله تعالى: وإذا قيل لهم يعني اليهود أنهم إذا قيل لهم: آمنوا بالقرآن الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: نؤمن بما [ ص: 284 ] أنزل علينا ، يعنون التوراة. و ما وراءه . قال : أي ما بعده، وقال قتادة : أي ما سواه ويعني به القرآن. وإذا تكلم رجل، أو فعل فعلا فأجاد، يقال له: ما وراء ما أتيت به شيء، أي ليس يأتي بعده، ووصف الله تعالى القرآن بأنه الحق. الفراء
و"مصدقا" حال مؤكدة عند وهي غير منتقلة، وقد تقدم معناها في الكلام، ولم يبق لها هي إلا معنى التأكيد، وأنشد سيبويه على الحال المؤكدة: سيبويه
أنا ابن دارة معروفا بها حسبي وهل لدارة يا للناس من عار؟
وقوله تعالى: قل فلم تقتلون الآية رد من الله تعالى عليهم في أنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم في ذلك، واحتجاج عليهم.
ولا يجوز الوقف على "فلم" لنقصان الحرف الواحد، إلا أن وقف عليه بالهاء، وسائر القراء بسكون الميم. وخاطب الله من حضر البزي محمدا صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل بأنهم قتلوا الأنبياء لما كان ذلك من فعل أسلافهم.
وجاء "تقتلون" بلفظ الاستقبال، وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله: من قبل ، وإذا لم يشكل فجائز سوق الماضي بمعنى المستقبل، وسوق المستقبل بمعنى الماضي، قال الحطيئة :
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر