قوله عز وجل:
التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم
هذه الأوصاف هي من الذين ذكر الله أنه اشترى منهم أنفسهم، وارتفعت هذه الصفات لما جاءت مقطوعة في ابتداء آية على معنى: هم التائبون، ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى رتبة، والآية الأولى مستقلة بنفسها، يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات التي هي في هذه الآية أو بأكثرها. وقالت فرقة: بل هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط، والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله. وأسند صفات المؤمنين في ذلك عن الطبري أن رجلا سأله عن قول الله عز وجل: الضحاك بن مزاحم إن الله اشترى الآية، وقال الرجل: ألا [ ص: 418 ] أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل؟ فقال : ويلك، أين الشرط: الضحاك التائبون العابدون الآية؟ وهذا القول تحريج وتضييق والله أعلم، والأول أصوب، وقد روي أن الله تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه، ختم الله لنا بالحسنى. والشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد،
وقالت فرقة: إن رفع التائبين إنما هو على الابتداء وما بعده صفة إلا قوله: "الآمرون" فإنه خبر الابتداء، كأنه قال: "هم الآمرون" ، وهذا حسن إلا أن معنى الآية ينفصل من معنى التي قبلها، وذلك قلق فتأمله، وفي مصحف : "التائبين العابدين" إلى آخرها، ولذلك وجهان; أحدهما: الصفة للمؤمنين على اتباع اللفظ، والآخر: النصب على المدح. عبد الله بن مسعود
و"التائبون" يعم الرجوع من الشر إلى الخير كان ذلك من كفر أو معصية، والرجوع من حالة إلى ما هي أحسن منها وإن لم تكن الأولى شرا بل خيرا، وهكذا كانت توبة النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره سبعين مرة في اليوم، ، والتائب عن ذنب يسمى تائبا وإن قام على غيره إلا أن يكون من نوعه فليس بتائب، والتوبة ونقضها دائبا خير من الإصرار، ومن تاب ثم نقض ووافى على النقض فإن ذنوبه الأولى تبقى عليه لأن توبته منها علم الله أنها منقوضة، ويحتمل الأمر غير ذلك والله أعلم. والتائب هو المقلع عن الذنب العازم على التمادي على الإقلاع النادم على ما سلف
وقال الحسن في تفسير الآية: "التائبون" معناه: من الشرك.
و"العابدون" لفظ يعم القيام بعبادة الله تبارك وتعالى والتزام شرعه وملازمة ذلك والمثابرة عليه والدوام، والعابد هو المحسن الذي فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "أن تعبد الله كأنك تراه"، وبأدنى عبادة يؤديها المرء المسلم يقع عليه اسم عابد ويحصل في أدنى رتبته، وعلى قدر زيادته في العبادة يحصل الوصف. [ ص: 419 ] و"الحامدون" معناه: الذاكرون لله بأوصافه الحسنى في كل حال وعلى السراء والضراء، وحمده لأنه أهل لذلك، وهو أعم من الشكر إذ الشكر إنما هو على النعم الخاصة بالشاكر.
و"السائحون" معناه: الصائمون، وروي عن رضي الله عنها أنها قالت: "سياحة هذه الأمة الصيام"، وأسنده عائشة ، وروي أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: "إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغوني صلاة أمتي علي" ، ويروى الحديث "صياحين" بالصاد من الصياح، والسياحة في الأرض مأخوذ من السيح وهو الماء الجاري على الأرض إلى غير غاية، وقال بعض الناس -وهو في كتاب الطبري -: النقاش السائحون هم وهذا قول حسن، وهي من أفضل العبادات، ومن ذلك قول الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته، رضي الله عنه: "اقعد بنا نؤمن ساعة"، ويروى أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل، فأدخل أصبعه في أذن القدح وجعل يفكر حتى طلع الفجر، فقيل له في ذلك فقال: أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى: معاذ بن جبل إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل ، وفكرت كيف أتلقى الغل وبقيت في ذلك ليلي أجمع.
و الراكعون الساجدون هم المصلون الصلوات الخمس، كذا قال أهل العلم، ولكن لا يختلف في أن من يكثر النوافل هو أدخل في الاسم وأغرق في الاتصاف.
وقوله: الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هو أمر فرض على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجملة، ثم يفترق الناس فيه مع التعيين، فأما ولاة الأمر والرؤساء فهو [ ص: 420 ] فرض عليهم في كل حال، وأما سائر الناس فهو فرض عليهم بشروط، منها: ألا تلحقه مضرة، وأن يعلم أن قوله يسمع ويعمل به ونحو هذا، ثم من تحمل بعد في ذات الله مشقة فهو أعظم أجرا، وأسند عن بعض العلماء أنه قال: حيثما ذكر الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو الأمر بالإسلام والنهي عن الكفر. الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولا شك أنه يتناول هذا وهو أحرى أن يتناول ما دونه فتعميم اللفظ أولى، وأما هذه الواو التي في قوله: والناهون ولم يتقدم في واحدة من الصفات قبل، فقيل: معناها الربط بين هاتين الصفتين وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ هما من غير قبيل الصفات الأول.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
لأن الأول فيما يخص المرء، وهاتان بينه وبين غيره، ووجب الربط بينهما لتلازمهما وتناسبهما، وقيل: هي زائدة، وهذا قول ضعيف لا معنى له، وقيل: هي واو الثمانية، لأن هذه الصفة جاءت ثامنة في الرتبة، ومن هذا قوله تعالى في أبواب الجنة: وفتحت أبوابها ، وقوله: وثامنهم كلبهم ، ومن هذا قوله: ثيبات وأبكارا .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
على أن هذه تعترض حتى لا يلزم أن يكون واو ثمانية أنها فرقت بين فصلين يعمان [ ص: 421 ] بمجموعهما جميع النساء ولا يصح أن يكون "ثيبات أبكارا" ، فهي فاصلة ضرورة، وواو الثمانية قد ذكرها ابن خالويه في مناظرته في معنى قوله: لأبي علي الفارسي وفتحت أبوابها وأنكرها ، وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ النحوي أبو علي أبي عبد الله الكفيف المالقي - وكان ممن استوطن غرناطة وأقرأ فيها في مدة ابن حبوس- أنه قال: "هي لغة فصيحة لبعض العرب، من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، تسعة، عشرة، فهكذا هي لغتهم، ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو.
وقوله تعالى: والحافظون لحدود الله لفظ عام تحته إلزام الشريعة والانتهاء عما نهى الله في كل شيء وفي كل فن، وقوله: وبشر المؤمنين قيل: هو لفظ عام أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر أمته جميعا بالخير من الله، وقيل: بل هذه الألفاظ خاصة لمن لم [ ص: 422 ] يغز، أي: لما تقدم في الآية وعد المجاهدين وفضلهم أمر أن يبشر سائر الناس ممن لم يغز بأن والحمد لله رب العالمين. الإيمان مخلص من النار
وقوله تعالى: ما كان للنبي الآية، يقتضي التأنيب ومنع ، إما بموافاتهم على الكفر وموتهم، ومنه قول الاستغفار للمشركين مع اليأس عن إيمانهم رضي الله عنه في العاص بن وائل: "لا جزاه الله خيرا"، وإما بنص من الله تعالى على أحد كأبي لهب وغيره فيمتنع الاستغفار له وهو حي. عمر بن الخطاب
واختلف المفسرون في سبب هذه الآية; فقال الجمهور -ومداره على ابن المسيب -: نزلت في شأن أبي طالب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه حين احتضر ووعظه وقال: "أي عم، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله تعالى"، وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أمية، فقالا له: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال أبو طالب: يا محمد، والله لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك، ثم قال: أنا على ملة عبد المطلب، ومات على ذلك، إذ لم يسمع منه النبي صلى الله عليه وسلم ما قال وعمرو بن دينار ، فنزلت: للعباس إنك لا تهدي من أحببت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفار لأبي طالب، وروي أن المؤمنين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم، فلذلك دخلوا في التأنيب والنهي. والآية -على هذا- ناسخة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ أفعاله في حكم الشرع المستقر.
وقال فضيل بن عطية وغيره: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أتى قبر أمه فوقف عليه حتى سخنت عليه الشمس، وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار لها فلم يؤذن له، فأخبر أصحابه أنه أذن له في زيارة قبرها ومنع أن يستغفر لها، فما رئي باكيا أكثر من يومئذ، ونزلت الآية في ذلك، وقالت فرقة: إنما نزلت بسبب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في [ ص: 423 ] المنافقين: "والله لأزيدن على السبعين"، وقال ، ابن عباس ، وغيرهما: إنما نزلت الآية بسبب جماعة من المؤمنين قالوا: نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه فنزلت الآية في ذلك، وعلى كل حال ففي ورود النهي عن الاستغفار للمشركين موضع اعتراض بقصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه، فنزل رفع ذلك الاعتراض في الآية التي بعدها. وقتادة
وقوله تعالى: من بعد ما تبين يريد: من بعد الموت على الكفر، فحينئذ تبين أنهم أصحاب الجحيم، أي سكانها وعمرتها، والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه، ومن هذا قول رضي الله عنه: "رحم الله رجلا استغفر أبي هريرة وأمه"، قيل له: ولأبيه قال: لا، إن أبي مات كافرا، وقال لأبي هريرة : الآية في النهي عن الصلاة على المشركين، والاستغفار هاهنا يراد به الصلاة. عطاء بن أبي رباح