قوله عز وجل:
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين
، فقد تكون في الأكثر رجوعا من [ ص: 427 ] حالة المعصية إلى حالة الطاعة، وقد تكون رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها، وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رجع به من حاله قبل تحصيل الغزوة وأجرها وتحمل مشقاتها إلى حاله بعد ذلك كله. وأما توبته على التوبة من الله رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين، وأما توبته على الفريق الذي كاد أن يزيغ فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا.
و اتبعوه معناه: دخلوا في أمره وانبعاثه ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، وقوله سبحانه: في ساعة العسرة يريد: في وقت العسرة، فأنزل الساعة منزلة المدة والوقت والزمن وإن كان عرف الساعة في اللغة أنه لما قل من الزمن كالقطعة من النهار. ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم في رواح يوم الجمعة: "في الساعة الأولى وفي الثانية" الحديث، فهي هنا تجوز، ويمكن أن يريد بقوله: في ساعة العسرة الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة وبها وفيها يقع الأجر على الله وترتبط النية، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد اتبع في ساعة العسرة، ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرتهم لما اختل كونهم متبعين في ساعة عسرة، والعسرة: الشدة وضيق الحال والعدم، ومنه قوله تعالى: وإن كان ذو عسرة ، وهذا هو جيش العسرة الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: "من جهز جيش العسرة فله الجنة"، فجهزه رضي الله عنه بألف جمل وألف دينار. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب الدنانير بيده وقال: "وما على عثمان بن عفان ما عمل بعد هذا؟"، وجاء أيضا رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر، عثمان وقال ، مجاهد : إن العسرة بلغت بهم في [ ص: 428 ] تلك الغزوة وهي غزوة وقتادة تبوك إلى أن قسموا التمرة بين رجلين، ثم كان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمضغها أحدهم ويشرب عليها الماء ثم يفعل كلهم بها ذلك. وقال رضي الله عنه: وأصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ويعصرون الفرث حتى استسقى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه يدعو، فما رجعهما حتى انسكبت سحابة فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر، وحينئذ قال رجل من المنافقين: وهل هذه إلا سحابة مرت؟ وكانت الغزوة في شدة الحر، وكان الناس كثيرا فقل الظهر فجاءتهم العسرة من جهات، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوائل بلد العدو فصالحه أهل أذرج وأيلة، وغيرهما على الجزية ونحوها، وانصرف. عمر بن الخطاب
وأما الزيغ الذي كادت قلوب فريق منهم أن تواقعه فقيل: همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة والعسرة، قاله الحسن. وقيل: زيغها إنما كان بظنون لها ساءت في معنى عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الغزوة لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد المشقة وقوة العدو المقصود.
وقرأ جمهور السبعة، وأبو بكر عن : "تزيغ" بالتاء من فوق على لفظ القلوب. وروي عن عاصم أنه كان يدغم الدال في التاء، وقرأ أبي عمرو ، حمزة وحفص عن ، عاصم ، والأعمش والجحدري: "يزيغ" بالياء على معنى جمع القلوب، وقرأ : "من بعد ما زاغت قلوب فريق" ، وقرأ ابن مسعود : "من بعد ما كادت تزيغ" . [ ص: 429 ] وأما "كاد" فيحتمل أن يرتفع بها ثلاثة أشياء; أولها وأقواها: القصة والشأن، هذا مذهب أبي بن كعب ، وترتفع "القلوب" -على هذا- بـ "تزيغ" ، والثاني: أن يرتفع بها ما يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار أولا، ويقدر ذلك: "القوم"، فكأنه قال: من بعد ما كاد القوم تزيغ قلوب فريق منهم، والثالث: أن يرتفع بها "القلوب" ويكون في قوله: "تزيغ" ضمير "القلوب" ، وجاز ذلك تشبيها بكان في قوله تعالى: سيبويه وكان حقا علينا نصر المؤمنين ، وأيضا فلأن هذا التقديم للخبر يراد به التأخير، وشبهت "كاد" بـ "كان" للزوم الخبر لها، قال : ولا يجوز ذلك في "عسى". أبو علي
ثم أخبر عز وجل أنه تاب أيضا على هذا الفريق وراجع به، بإعلامه للأمة بأنه رؤوف رحيم، والثلاثة هم: وأنس ، كعب بن مالك وهلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع العامري، ويقال: ابن ربيعة، ويقال: ابن ربعي، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ، وهو في السير، فلذلك اختصرنا سوقه. وهم [ ص: 430 ] الذين تقدم فيهم: ومسلم وآخرون مرجون ، ومعنى: خلفوا : أخروا وترك أمرهم ولم تقبل منهم معذرة ولا ردت عليهم، فكأنهم خلفوا عن المعتذرين، وقيل: معنى خلفوا أي عن غزوة تبوك، قاله ، وهذا ضعيف وقد رده قتادة نفسه وقال: معنى خلفوا : تركوا عن قبول العذر، وليس بتخلفنا عن الغزو، ويقوي ذلك جعله كعب بن مالك حتى إذا ضاقت غاية للتخلف، ولم يكن ذلك عن تخليفهم عن الغزو، وإنما ضاقت عليهم الأرض عن تخليفهم عن قبول العذر.
وقرأ الجمهور: "خلفوا" بضم الخاء وشد اللام المكسورة، وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي، ، وزر بن حبيش ، وعمرو بن عبيد أيضا: "خلفوا" بفتح الخاء واللام غير مشددة، وقرأ وأبو عمرو : "خلفوا" بضم الخاء وتخفيف اللام المكسورة، وقرأ أبو مالك أبو جعفر محمد بن علي ، ، وعلي بن الحسين وجعفر بن محمد، : "خالفوا" والمعنى قريب من التي قبلها، وقال وأبو عبد الرحمن : ولو خلفوا لم يكن لهم ذنب، وقرأ أبو جعفر : "وعلى الثلاثة المخلفين" . الأعمش
وقوله تعالى: بما رحبت معناه: برحبها، كأنه قال: على ما هي في نفسها رحبة، فـ "ما" مصدرية، وضاقت عليهم أنفسهم استعارة لأن الهم والغم ملأها، وظنوا في هذه الآية بمعنى: أيقنوا وحصل علم لهم.
وقوله تعالى: ثم تاب عليهم ليتوبوا لما كان هذا القول في تعديد نعمه بدا في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله عز وجل ليكون ذلك منبها على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره، ولو كان القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال الله تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ليكون هذا أشد تقريرا للذنب عليهم، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه. وبيان هذه الآية ومواقع [ ص: 431 ] ألفاظها إنما يكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا في الكتب التي ذكرنا، وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأن الشرع يطلبهم من الجد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه، إذ هم أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين، إذ كان من أهل العقبة وصاحباه من أهل كعب بدر . وفي هذا ما يقتضي أن الرجل العالم والمقتدى به أقل عذرا في السقوط من سواه، وكتب رحمه الله إلى الأوزاعي في آخر رسالة: "واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظما، ولا طاعته إلا وجوبا، ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكارا والسلام"، ولقد أحسن المنصور أبي جعفر القاضي التنوخي في قوله:
والعيب يعلق بالكبير كبير
وفي بعض طرق حديث الثلاثة ، وكانت لهم صالحة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أم سلمة ، تيب على أم سلمة وصاحبيه" ، فقالت: يا رسول الله ألا أبعث إليهم؟ فقال: "إذا يحطمكم الناس سائر الليلة فيمنعوكم النوم" كعب بن مالك . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ليلة نزول توبتهم في بيت
وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ، هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين، فجاء هذا الأمر اعتراضا في أثناء الكلام إذ عن في القصة ما يجب التنبيه على امتثاله، وقال وغيره: الصدق في هذه الآية هو صدق الحديث، وقال ابن جريج ، نافع ما معناه: إن اللفظ أعم من صدق الحديث، وهو بمعنى الصحة في الدين والتمكن في الخير، كما تقول العرب: "عود صدق ورجل صدق"، وقالت هذه الفرقة: كونوا مع والضحاك محمد صلى الله عليه وسلم، ، وأبي بكر ، وأخيار وعمر المهاجرين الذين صدقوا الله [ ص: 432 ] في الإسلام. و"مع" في هذه الآية تقتضي الصحبة في الحال والمشاركة في الوصف المقتضي للمدح، وقرأ ، ابن مسعود : "وكونوا من الصادقين" ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان وابن عباس يتأوله في صدق الحديث. وروي عنه أنه قال: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، اقرأوا إن شئتم ابن مسعود يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين .