قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم [ ص: 292 ] إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم
الضمير في "منها" للجنة وإن لم يجر ذكرها، في القصة تتضمنها، ويحتمل أن يعود الضمير على صيغة الملائكة. و"الرجيم" المشؤوم، أي: المرجوم بالقول والشتم، و يوم الدين يوم الجزاء، ومنه قول الشاعر:
ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا
وسأل إبليس النظرة إلى يوم البعث فأعطاه الله إياها إلى وقت معلوم، واختلف فيه- فقيل: إلى يوم القيامة، أي يكون آخر من يموت من الخلق، قاله وغيره. وقيل إلى وقت غير معين ولا مرسوم بقيامة ولا غيرها، بل علمه عند الله وحده. وقيل: بل أمره كان إلى يوم الطبري بدر، وأنه قتل يوم بدر، وهذا -وإن كان روي- فهو ضعيف. والمنظر: المؤخر. وقوله: "رب" مع كفره يخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق، وهو الظاهر من حاله وما تقتضيه فيه الآيات والأحاديث، وهذا لا يدفع في صدر كفره.
وقوله: بما أغويتني قال ، وغيره: "أقسم بالإغواء"، كأنه جعله بمنزلة قوله: "رب بقدرتك علي وقضائك"، ويحتمل أن يكون بالسبب، كأنه قال: "رب والله لأغوينهم بسبب إغوائك لي ومن أجله وكفاء له"، ويحتمل أن يكون المعنى تجلدا منه ومبالغة في الجد، أي: "بحالي هذه وبعدي من الخير والله لأفعلن ولأغوين"، ومعنى أبو عبيدة لأزينن لهم في الأرض أي الشهوات والمعاصي. والضمير في "لهم" لذرية آدم وإن كان لم يجر لهم ذكر، فالقصة بجملتها حيث وقعت كاملة تتضمنهم، والإغواء: الإضلال".
وقرأ ، ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والحسن : "المخلصين" بفتح [ ص: 293 ] اللام، أي الذين أخلصتهم أنت لعبادتك وتقواك، وقرأ الجمهور بكسر اللام، أي الذين أخلصوا الإيمان بك وبرسلك. والأعرج
وقوله تعالى: قال هذا صراط علي مستقيم ، القائل هو الله تبارك وتعالى، ويحتمل أن يكون ذلك بواسطة، وقرأ الضحاك، وحميد، ، والنخعي ، وأبو رجاء وابن سيرين، ، وقتادة وقيس بن عباد، ، وغيرهم: "علي مستقيم" من العلو والرفعة، والإشارة بـ "هذا" -على هذه القراءة- إلى الإخلاص، لما استثني إبليس من أخلص قال الله له: هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهله. وقرأ جمهور الناس: "علي" بياء مشددة مفتوحة، والإشارة بـ "هذا" -على هذه القراءة- إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص، لما قسم إبليس الناس هذين القسمين قال الله له: هذا طريق إلي، أي: هذا أمر مصيره إلي، ومجاهد والعرب تقول: "طريقك في هذا الأمر على فلان"، أي: إليه يصير النظر في أمرك. وهذا نحو قوله تعالى: إن ربك لبالمرصاد ، والآية -على هذه القراءة- خبر تتضمن وعيدا.
ثم ابتدأ الإخبار عن سلامة عباده المتقين من إبليس، وخاطبه بأنه لا حجة له عليهم ولا ملكة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والظاهر من قوله: "عبادي" الخصوص في أهل الإيمان والتقوى لا عموم الخلق، وبحسب هذا يكون إلا من اتبعك مستثنى من غير الأول، والتقدير: لكن من اتبعك من الغاوين لك عليهم سلطان، وإن أخذنا العباد عاما في عباد الناس، إذ لم يقدر الله لإبليس سلطانا على أحد، فإنا نقدر الاستثناء في الأقل في القدر من حيث لا قدر للكفار، والنظر الأول أصوب، وإنما الغرض ألا نقع في استثناء الأكثر من الأقل وإن [ ص: 294 ] كان الفقهاء قد جوزوه، وقال أبو المعالي : ليس معروفا في استعمال العرب ، وهذه الآية أمثل ما احتج به مجوزوه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولا حجة لهم في الآية على ما بينته.
وقوله تعالى: وإن جهنم لموعدهم أي موضع اجتماعهم، والموعد يتعلق بزمان ومكان، وقد يذكر المكان ولا يحدد زمان الموعد. و"أجمعين" تأكيد، وفيه معنى الحال، وقوله: لها سبعة أبواب قيل: إن وإن في كل طبق منها بابا، فالأبواب -على هذا- بعضها فوق بعض، وعبر في هذه الآية عن النار جملة بجهنم، إذ هي أشهر منازلها وأولها، وهي موضع عصاة المؤمنين الذين لا يخلدون، ولهذا روي أن جهنم تخرب وتبلى. وقيل: إن النار أطباق كما ذكرنا، لكن الأبواب السبعة كلها في جهنم على خط استواء، ثم ينزل من كل باب إلى طبقة الذي يفضي إليه. واختصرت ما ذكر المفسرون في المسافات التي بين الأبواب، وفي هواء النار، وفي كيفية الحال، إذ هي أقوال كثيرة أكثرها لا يستند، وهي في حيز الجائز، والقدرة أعظم منها، عافانا الله من ناره، وتغمدنا برحمته بمنه. النار بجملتها سبعة أطباق، أعلاها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم وفيه أبو جهل، ثم الهاوية،
وقوله: "جزء"، قرأ الجمهور بالهمز، وقرأ بضم الزاي، وقرأت فرقة "جز" بشد الزاي دون همز، وهي قراءة ابن شهاب ابن القعقاع.