ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا
الخطاب في هذه الآية للأوصياء الذين هم معدون لقرب مال اليتيم، ثم هي لمن تلبس بشيء من أمرهم من غير وصي، و"اليتيم": الفرد من الأبناء، واليتم: الانفراد، يقال: يتم الصبي ييتم إذا فقد أباه. قال اليتم في البشر من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم. وفي كتاب ابن السكيت: أن اليتم في البشر من قبل الأم أيضا، وجمع اليتيم أيتام، كشريف وأشراف، وشهيد وأشهاد، ويجمع يتامى كأسير وأسارى، كأنها في الأمور المكروهة التي تدخل على المرء غلبة،. قال الماوردي: وحكى ابن سيده: "يتمان" في "يتيم"، وأنشد في ذلك. ابن الأعرابي
فبت أشوي صبيتي وحليلتي ... طريا وجرو الذئب يتمان جائع
ويجوز أن يكون "يتامى"جمع "يتمان". وفي الحديث: وقوله تعالى: "لا يتم بعد حلم". إلا بالتي هي أحسن يريد: إلا بأحسن الحالات.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وذلك في الوصي الغني، أن يثمر المال ويحوطه، ولا يحبس منه شيئا على جهة الانتفاع به. هذا هو الورع، والأولى ألا أن يكون يشتغل في مال اليتيم ويشح عليه، فالفقه أن تفرض له أجرة. وأما فقال الوصي الفقير الذي يشغله مال اليتيم عن معاشه، فاختلف [ ص: 475 ] الناس في أكله منه بالمعروف، كيف هو؟ رضي الله عنه: يتسلف منه، فإذا أيسر رد فيه، وقال عمر بن الخطاب : لا يشرب الماء من مال اليتيم، قيل: فما معنى: ابن المسيب فليأكل بالمعروف ؟ قال: إنما ذلك لخدمته وغسل ثوبه، وقال : لا يقرب إلا بتجارة ولا يستقرض منه، قال: وقوله تعالى: مجاهد فليأكل بالمعروف من مال نفسه. وقال أبو يوسف : لعل قوله: فليأكل بالمعروف منسوخ بقوله: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل . وقال رضي الله عنهما: يأكل منه الشربة من اللبن، والطرفة من الفاكهة، ونحو هذا مما يخدمه، ويلوط الحوض، ويجد النخل، وينشد الضالة، فيأكل غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب، وقال زيد بن أسلم: يأكل منه بأطراف أصابعه بلغة من العيش بتعبه. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذه استعارة للتقلل، وقال رحمه الله، وغيره: يأخذ منه أجرة بقدر تعبه، فهذه كلها تدخل فيما هو أحسن. وكمال تفسير هذه المعاني في سورة النساء بحسب ألفاظ تلك الآيات، وفي الخبر عن مالك أن هذه الآية لما نزلت شقت على المسلمين، وتجنبوا الأكل معهم في صحيفة، فنزلت قتادة وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح .
وقوله تعالى: حتى يبلغ أشده غاية الإمساك عن مال اليتيم، ثم ما بعد الغاية قد سنته [ ص: 476 ] آية أخرى، وما بعد هذه الغايات أبدا موقوف حتى يقوم فيه دليل شرعي، أو يقتضي ذلك الإنصاف في النازلة، ومثل هذا رضي الله عنها: "أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، وبعثت بها، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي". عائشة قول
و "الأشد": جمع (شد) عند ، وقال سيبويه : لا واحد له من لفظه، ومعناه: قواه في العقل والتجربة والنظر لنفسه، وذلك لا يكون إلا مع البلوغ، فالأشد في مذهب أبو عبيدة إقران البلوغ بالاحتلام أو ما يقوم مقامه حسب الخلاف في ذلك، والرشد في المال. واختلف، هل من شروط ذلك الرشد في الدين على قولين: مالك فابن القاسم لا يراعيه إذا كان ضابطا لماله، وراعاه غيره من بعض أصحاب ، ومذهب مالك أن الأشد هو البلوغ فقط، فلا حجر عنده على بالغ إلا أن يعرف منه السفه. أبي حنيفة
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولست من هذا التقييد في قوله على ثقة.
وقال : الأشد في قوله أن يأتي على الصبي ثماني عشرة سنة. أبو إسحاق الزجاج
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإنما أراد أنه بعض ما قيل في حد البلوغ لمن لا يحتلم، وأما أن يكون بالغا رشيدا فلا يدفع إليه ماله حتى يبلغ هذه المدة فشيء لا أحفظ من يقوله:
وقوله تعالى: وأوفوا بالعهد لفظ عام لكل عهد وعقد بين الإنسان وبين ربه، أو بينه وبين المخلوقين في طاعة، وقوله: إن العهد كان مسؤولا أي: مطلوبا ممن عهد إليه أو عوهد، هل وفى به أم لا؟
وقوله تعالى: وأوفوا الكيل إذا كلتم الآية. أمر الله تعالى في هذه الآية أهل التجر الوزن والكيل أن يعطوا الحق في كيلهم ووزنهم، وروي عن رضي الله عنهما أنه كان يقف في السوق ويقول: يا معشر الموالي، إنكم وليتم أمرين بهما هلاك الناس قبلكم، هذا المكيال وهذا الميزان. ابن عباس
[ ص: 477 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وتقتضي هذه الآية أن لأن المشتري لا يقال له: "أوف الكيل"، هذا ظاهر اللفظ والسابق منه، و "القسطاس" قال الكيل على البائع; : هو القبان، ويقال فيه: القفان، وهو القاسطون، ويقال القرطسون، وقيل: القسطاس الميزان صغيرا كان أو كبيرا، وقال الحسن : القسطاس: العدل، وكان يقول: هي لغة رومية، فكأن الناس قيل لهم: زنوا بمعدلة في وزنكم. وقرأ مجاهد ، ابن كثير ، ونافع وأبو عمرو، ، وابن عامر -في رواية وعاصم : "القسطاس" بضم القاف، وقرأ أبي بكر ، حمزة ، والكسائي وحفص عن : "القسطاس"، وهما لغتان، واللفظة منه للمبالغة من القسط، والمراد بها في الآية جنس الموازين العدلة على أي صفة كانت. عاصم
قال : "إنما قرأ بكسر القاف أهل أبو حاتم الكوفة ، وكل قراءة لا تجاوز الكوفة إلى الحرمين والبصرة فاقرأ بغيرها". وقرأت فرقة: "بالقصطاس" بالصاد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وكان مذهب في هذا وفي ميزان القيامة، وكل ذلك، أنها استعارات للعدل، وقوله: "ميزان القيامة" مردود، وعقيدة مجاهد أهل السنة أنه ميزان له عمود وكفتان. وسمعت أبي رضي الله عنه يقول: رأيت الواعظ أبا الفضل الجوهري في جامع يعظ الناس في الوزن، فقال في جملة كلامه: إن هيئة اليد بالميزان عظة، وذلك أن الأصابع تجيء منها صورة المكتوبة: ألف ولا مان وهاء فكأن الميزان يقول: الله الله. عمرو بن العاص
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا وعظ جميل.
و "التأويل" في هذه الآية: المآل، قاله ، ويحتمل أن يكون "التأويل" مصدر تأول، أي: يتأول عليكم الخير في جميع أموركم إذا أحسنتم في الكيل والوزن. قتادة
[ ص: 478 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والغرض من الكيل والوزن تحري الحق، فإن غلب الإنسان بعد تحريه لشيء يسير من تطفيف شاذ، لم يقصده، فذلك نزر موضوع عنه إثمه، وذلك ما لا يكون الانفكاك عنه في وسع.
وقوله تعالى: ولا تقف معناه: ولا تقل ولا تتبع.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
لكنها لفظة تستعمل في القذف والعظة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: بنو النضر لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا"، وتقول: فلان قفوتي، أي: موضع تهمتي، وتقول: "رب سامع عذرتي ولم يسمع قفوتي" أي: ما رميت به، وهذا مثل للذي يفشي سره ويعتذر من ذنب لم يسمعه المعتذر إليه. وقد قال "نحن أيضا، ابن عباس : ومجاهد ولا تقف معناه: ولا ترم، ومن هذه اللفظة قول الشاعر:
ومثل الدمى شم العرانين ساكن ... بهن الحياء لا يشعن التقافيا
[ ص: 479 ] وقال الكميت:
ولا أرمي البريء بغير ذنب ... ولا أقفو الحواضن إن قفينا
وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر، تقول: قفوت الأثر، ويشبه أن هذا من "القفا"، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو البيت، وتقول: "قفت الأثر"، ومن هذا: هو القائف، وتقول: "فقت الأثر" بتقديم الفاء على القاف، ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ، كما قالوا: "رعملي" في "لعمري"، وحكى عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف، مثل عتا وعات، فمعنى الآية: ولا تتبع لسانك من القول ما لا علم لك به، وذهب الطبري إلى أن قفا وقاف مثل جذب وجبذ، فهذه الآية بالجملة تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة الرديئة. منذر بن سعيد
وقرأ الجمهور: "ولا تقف"، وقرأ بعض الناس -فيما حكى -: "ولا تقف" بضم القاف وسكون الفاء. الكسائي
وقرأ الجراح: "والفواد" بفتح الفاء، وهي لغة، وأنكرها وغيره، وعبر عن "السمع والبصر والفؤاد" بـ "أولئك" لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها بـ "أولئك"، وقد قال أبو حاتم رحمه الله في قوله تعالى: سيبويه رأيتهم لي ساجدين : إنه إنما قال: "رأيتهم" في نجوم لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل. وحكى أن الزجاج العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بالإدراك، وأنشد هو : والطبري
[ ص: 480 ]
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
فأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده، وأما البيت فالرواية "الأقوام"، والضمير في "عنه" يعود على ما ليس للإنسان به علم، ويكون المعنى: أن الله تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به، فيقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي. ويحتمل أن يعود الضمير في "عنه" على "كل" التي هي للسمع والبصر والفؤاد، والمعنى: أن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده، فكأنه قال: كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولا، أي عما حصل لهؤلاء من الإدراكات، ووقع منها من الخطايا، فالتقدير "عن أعمالها مسؤولا"، فهو على حذف مضاف.