ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين
ولقد أهلكنا القرون أي: القرون الخالية، مثل: قوم نوح وعاد وأضرابهم و(من) في قوله تعالى: من قبلكم متعلقة بـ(أهلكنا) أي: أهلكناهم من قبل زمانكم، والخطاب لأهل مكة على طريقة الالتفات [ ص: 127 ] للمبالغة في تشديد التهديد بعد تأييده بالتوكيد القسمي لما ظلموا ظرف للإهلاك، أي: أهلكناهم حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتمادي في الغي والضلال من غير تأخير.
وقوله تعالى: وجاءتهم رسلهم حال من ضمير ظلموا بإضمار "قد" وقوله تعالى: بالبينات متعلق بـ(جاءتهم) على أن الباء للتعدية، أو بمحذوف وقع حالا من رسلهم دالة على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة، أي: ظلموا بالتكذيب، وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينة الدالة على صدقهم، أو ملتبسين بها حين لا مجال للتكذيب.
وقد جوز أن يكون قوله تعالى: "وجاءتهم" عطفا على "ظلموا" فلا محل له من الإعراب عند سيبويه، وعند غيره محله الجر؛ لأنه معطوف على ما هو مجرور بإضافة الظرف إليه، وليس الظلم منحصرا في التكذيب حتى يحتاج إلى الاعتذار بأن الترتيب الذكري لا يجب كونه على وفق الترتيب الوقوعي، كما في قوله تعالى: ورفع أبويه على العرش وخروا له ... إلخ، بل هو محمول على سائر أنواع الظلم، والتكذيب مستفاد من قوله تعالى: وما كانوا ليؤمنوا على أبلغ وجه وآكده، فإن اللام لتأكيد النفي، أي: وما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم، وخذلان الله تعالى إياهم لعلمه بأن الألطاف لا تنجع فيهم، والجملة على الأول عطف على (ظلموا) لأنه إخبار بإحداث التكذيب، وهذا بالإصرار عليه، وعلى الثاني عطف على ما عطف عليه، وقيل: اعتراض بين الفعل وما يجري مجرى مصدره التشبيهي، أعني قوله تعالى: كذلك فإن الجزاء المشار إليه عبارة عن مصدره، أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع، أي: الإهلاك الشديد الذي هو الاستئصال بالمرة نجزي القوم المجرمين أي: كل طائفة مجرمة، وفيه وعيد شديد وتهديد أكيد لأهل مكة لاشتراكهم لأولئك المهلكين في الجرائم والجرائر التي هي تكذيب الرسول والإصرار عليه، وتقرير لمضمون ما سبق من قوله تعالى: "ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير"، وقرئ بالياء على الالتفات إلى الغيبة، وقد جوز أن يكون المراد بالقوم المجرمين أهل مكة على طريقة وضع الظاهر موضع ضمير الخطاب؛ إيذانا بأنهم أعلام في الإجرام، ويأباه كل الإباء قوله عز وجل: