وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينـزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم
[ ص: 486 ] (74) يقول تعالى: واذكر قصة إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، مثنيا عليه ومعظما في حال دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، وإذ قال لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة أي: لا تنفع ولا تضر وليس لها من الأمر شيء، إني أراك وقومك في ضلال مبين حيث عبدتم من لا يستحق من العبادة شيئا، وتركتم عبادة خالقكم، ورازقكم، ومدبركم.
(75) وكذلك حين وفقناه للتوحيد والدعوة إليه نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أي: ليرى ببصيرته، ما اشتملت عليه من الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة وليكون من الموقنين فإنه بحسب قيام الأدلة، يحصل له الإيقان والعلم التام بجميع المطالب.
(76) فلما جن عليه الليل أي: أظلم رأى كوكبا لعله من الكواكب المضيئة، لأن تخصيصه بالذكر، يدل على زيادته عن غيره، ولهذا -والله أعلم- قال من قال: إنه الزهرة.
قال هذا ربي أي: على وجه التنزل مع الخصم أي: هذا ربي، فهلم ننظر، هل يستحق الربوبية؟ وهل يقوم لنا دليل على ذلك؟ فإنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه، بغير حجة ولا برهان.
فلما أفل أي: غاب ذلك الكوكب قال لا أحب الآفلين أي: الذي يغيب ويختفي عمن عبده، فإن المعبود لا بد أن يكون قائما بمصالح من عبده، ومدبرا له في جميع شئونه، فأما الذي يمضي وقت كثير وهو غائب، فمن أين يستحق العبادة؟! وهل اتخاذه إلها إلا من أسفه السفه، وأبطل الباطل؟!
(77) فلما رأى القمر بازغا أي: طالعا، رأى زيادته على نور الكواكب ومخالفته لها قال هذا ربي تنزلا. فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فافتقر غاية الافتقار إلى هداية ربه، وعلم أنه إن لم يهده الله فلا هادي له، وإن لم يعنه على طاعته، فلا معين له.
(78) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر من الكوكب ومن القمر. فلما أفلت تقرر حينئذ الهدى، واضمحل الردى ف قال يا قوم إني بريء مما تشركون حيث قام البرهان الصادق الواضح، على بطلانه.
(79) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا أي: لله وحده، مقبلا عليه، معرضا عن من سواه. وما أنا من المشركين فتبرأ من الشرك، وأذعن بالتوحيد، وأقام على ذلك البرهان.
[ ص: 487 ] وهذا الذي ذكرنا في تفسير هذه الآيات، هو الصواب، وهو أن المقام مقام مناظرة، من إبراهيم لقومه، وبيان بطلان إلهية هذه الأجرام العلوية وغيرها. وأما من قال: إنه مقام نظر في حال طفوليته، فليس عليه دليل.
(80) وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان أي فائدة لمحاجة من لم يتبين له الهدى؟ فأما من هداه الله، ووصل إلى أعلى درجات اليقين، فإنه هو بنفسه- يدعو الناس إلى ما هو عليه.
ولا أخاف ما تشركون به فإنها لن تضرني، ولن تمنع عني من النفع شيئا. إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون فتعلمون أنه وحده المعبود المستحق للعبودية.
(81) وكيف أخاف ما أشركتم وحالها حال العجز، وعدم النفع، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا أي: إلا بمجرد اتباع الهوى. فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون .
(82) قال الله تعالى فاصلا بين الفريقين الذين آمنوا ولم يلبسوا أي: يخلطوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون الأمن من المخاوف والعذاب والشقاء، والهداية إلى الصراط المستقيم، فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا، لا بشرك، ولا بمعاص، حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة. وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها. ومفهوم الآية الكريمة، أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم هداية، ولا أمن، بل حظهم الضلال والشقاء.
(83) ولما حكم لإبراهيم عليه السلام، بما بين به من البراهين القاطعة قال: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه أي: علا بها عليهم، وفلجهم بها.
نرفع درجات من نشاء كما رفعنا درجات إبراهيم عليه السلام في الدنيا والآخرة، فإن العلم يرفع الله به صاحبه فوق العباد درجات. خصوصا العالم العامل المعلم، فإنه يجعله الله إماما للناس، بحسب حاله ترمق أفعاله، وتقتفى آثاره، ويستضاء بنوره، ويمشى بعلمه في ظلمة ديجوره.
قال تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات .
إن ربك حكيم عليم فلا يضع العلم [ ص: 488 ] والحكمة، إلا في المحل اللائق بها، وهو أعلم بذلك المحل، وبما ينبغي له.