[ ص: 3935 ] (96) سورة العلق مكية
وآياتها تسع عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5) كلا إن الإنسان ليطغى (6) أن رآه استغنى (7) إن إلى ربك الرجعى (8) أرأيت الذي ينهى (9) عبدا إذا صلى (10) أرأيت إن كان على الهدى (11) أو أمر بالتقوى (12) أرأيت إن كذب وتولى (13) ألم يعلم بأن الله يرى (14) كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية (15) ناصية كاذبة خاطئة (16) فليدع ناديه (17) سندع الزبانية (18) كلا لا تطعه واسجد واقترب (19)
مطلع هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن باتفاق. والروايات التي تذكر نزول غيرها ابتداء ليست وثيقة. قال الإمام حدثنا أحمد: حدثنا عبد الرزاق، معمر بن الزهري، عن عن عروة، رضي الله عنها - قالت: عائشة -
بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود إلى ذلك. ثم يرجع إلى فيتزود لمثلها. حتى جاءه الحق وهو في خديجة غار حراء. فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة، ثم قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم .. فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترجف بوادره، حتى دخل على فقال "زملوني زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع، [ ص: 3936 ] فقال: يا خديجة، مالي؟ وأخبرها الخبر. وقال: "قد خشيت على نفسي" فقالت له: كلا. أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به خديجة ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم أخي أبيها. وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية. كان يكتب الكتاب العربي، وكتب العبرانية من الإنجيل - ما شاء الله أن يكتب - وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت خديجة أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال خديجة: ورقة: ابن أخي، ما ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما رأى. فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أو مخرجي هم؟" فقال ورقة: نعم. لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي ... إلخ". وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث "أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء. وكان يخلو وروى الزهري.. بإسناده - عن الطبري - قال: عبد الله بن الزبير.
"قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فجاءني - وأنا نائم - بنمط من ديباج فيه كتاب. فقال: اقرأ. فقلت: ما أقرأ. فغتني حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ماذا أقرأ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إلي بمثل ما صنع بي. قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق ... إلى قوله: علم الإنسان ما لم يعلم قال: فقرأته. ثم انتهى، ثم انصرف عني. وهببت من نومي، وكأنما كتب في قلبي كتابا. قال: ولم يكن من خلق الله أبغض علي من شاعر أو مجنون. كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت: إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون! لا تحدث بها عني قريش أبدا! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن! قال: فخرجت أريد ذلك. حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد. أنت رسول الله وأنا جبريل. قال فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي، ولا أرجع ورائي، حتى بعثت رسلها في طلبي، حتى بلغوا خديجة مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني. ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي ..."..
وقد رواه مطولا عن ابن إسحاق عن وهب بن كيسان عبيد أيضا..
وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير، ثم مررنا به وتركناه، أو تلبثنا عنده قليلا ثم جاوزناه!
إنه حادث ضخم. ضخم جدا. ضخم إلى غير حد. ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا!
إنه حادث ضخم بحقيقته. وضخم بدلالته. وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا.. وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد - بغير مبالغة - هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل.
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟
حقيقته أن الله جل جلاله، العظيم الجبار القهار المتكبر، مالك الملك كله، قد تكرم - في عليائه - فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض. وكرم هذه [ ص: 3937 ] الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي، ومستودع حكمته، ومهبط كلماته، وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - بهذه الخليقة.
وهذه حقيقة كبيرة. كبيرة إلى غير حد. تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان - قدر طاقته - حقيقة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية. ويتصور في ظلها حقيقة العبودية المحدودة الحادثة الفانية. ثم يستشعر وقع هذه العناية الربانية بهذا المخلوق الإنساني; ويتذوق حلاوة هذا الشعور ويتلقاه بالخشوع والشكر والفرح والابتهال.. وهو يتصور كلمات الله، تتجاوب بها جنبات الوجود كله، منزلة لهذا الإنسان في ذلك الركن المنزوي من أركان الوجود الضئيلة!
وما دلالة هذا الحادث؟
دلالته - في جانب الله سبحانه - أنه ذو الفضل الواسع، والرحمة السابغة، الكريم الودود المنان. يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة، سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة.
ودلالته - في جانب الإنسان - أن الله - سبحانه - قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها، ولا يملك أن يشكرها. وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعا ساجدا.. هذه.. أن يذكره الله، ويلتفت إليه، ويصله به، ويختار من جنسه رسولا يوحي إليه بكلماته. وأن تصبح الأرض.. مسكنه.. مهبطا لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال.
فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى. بدأت في تحويل خط التاريخ، منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني.. منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه.. إنها ليست الأرض وليس الهوى.. إنما هي السماء والوحي الإلهي.
ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة.. في كنف الله ورعايته المباشرة الظاهرة. عاشوا يتطلعون إلى الله مباشرة في كل أمرهم. كبيره وصغيره. يحسون ويتحركون تحت عين الله. ويتوقعون أن تمتد يده - سبحانه - فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة. تردهم عن الخطإ وتقودهم إلى الصواب.. وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من الله وحي يحدثهم بما في نفوسهم، ويفصل في مشكلاتهم، ويقول لهم: خذوا هذا ودعوا ذاك!
ولقد كانت فترة عجيبة حقا. فترة الثلاثة والعشرين عاما التالية، التي استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة بين البشر والملإ الأعلى. فترة لا يتصور حقيقتها إلا الذين عاشوها. وأحسوها. وشهدوا بدأها ونهايتها. وذاقوا حلاوة هذا الاتصال. وأحسوا يد الله تنقل خطاهم في الطريق. ورأوا من أين بدأوا وإلى أين انتهوا.. وهي مسافة هائلة لا تقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض. مسافة في الضمير لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر، ولا يماثلها بعد بين الأجرام والعوالم! المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء. بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي. بين الجاهلية والإسلام. بين البشرية والربانية، وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام!
وكانوا يعرفون مذاقها. ويدركون حلاوتها. ويشعرون بقيمتها، ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقا.
عن رضي الله عنه - قال: قال أنس - أبو بكر رضي الله عنهما - بعد وفاة رسول الله - صلى الله [ ص: 3938 ] عليه وسلم - انطلق بنا إلى لعمر - رضي الله عنها - نزورها كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها. فلما أتيا إليها بكت. فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت: بلى، إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها ... (أخرجه أم أيمن - ... مسلم)
ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء لا من الأرض، واستمداد شريعته من الوحي لا من الهوى .
لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط، وكما لم يتحول من بعد أيضا. وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق. وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان، ولا تطمسها الأحداث. وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة، ولم يجئ بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعا، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية. ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض! وتبينت خطوطه ومعالمه. ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة لا غموض ولا إبهام. إنما هو الضلال عن علم، والانحراف عن عمد، والالتواء عن قصد!
إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة. الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد. والذي كان فرقانا في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل. والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به، وسجله الضمير الإنساني. وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها. وأن يذكر دائما أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان ...
ذلك شأن المقطع الأول من السورة. فأما بقيتها فواضح أنها نزلت فيما بعد. فهي تشير إلى مواقف وحوادث في السيرة لم تجئ إلا متأخرة، بعد تكليف الرسول - صلى الله عليه وسلم - إبلاغ الدعوة، والجهر بالعبادة، وقيام المشركين بالمعارضة. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في السورة: