وهل أتاك حديث موسى . إذ رأى نارا فقال لأهله: امكثوا إني آنست نارا، لعلي آتيكم منها بقبس، أو أجد على النار هدى ..
وهل أتاك حديث موسى ؟ وما يتجلى فيه من رعاية الله وهداه لمن اصطفاه؟ ..
فها هو ذا موسى - عليه السلام - في الطريق بين مدين ومصر إلى جانب الطور ها هو ذا عائد بأهله بعد أن قضى فترة التعاقد بينه وبين نبي الله شعيب، على أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه ثماني سنوات أو عشرا. والأرجح أنه وفى عشرا; ثم خطر له أن يفارق شعيبا وأن يستقل بنفسه وبزوجه، ويعود إلى [ ص: 2330 ] البلد الذي نشأ فيه، والذي فيه قومه بنو إسرائيل يعيشون تحت سياط فرعون وقهره .
لماذا عاد. وقد خرج من مصر طريدا. قتل قبطيا فيها حين رآه يقتتل مع إسرائيلي، وغادر مصر هاربا وبنو إسرائيل فيها يسامون العذاب ألوانا؟ حيث وجد الأمن والطمأنينة في مدين إلى جوار شعيب صهره الذي آواه وزوجه إحدى ابنتيه؟
إنها جاذبية الوطن والأهل تتخذها القدرة ستارا لما تهيئه لموسى من أدوار.. وهكذا نحن في هذه الحياة نتحرك. تحركنا أشواق وهواتف، ومطامح ومطامع، وآلام وآمال.. وإن هي إلا الأسباب الظاهرة للغاية المضمرة، والستار الذي تراه العيون لليد التي لا تراها الأنظار ولا تدركها الأبصار. يد المدبر المهيمن العزيز القهار..
وهكذا عاد موسى . وهكذا ضل طريقه في الصحراء ومعه زوجه وقد يكون معهما خادم. ضل طريقه والليل مظلم، والمتاهة واسعة. نعرف هذا من قوله لأهله: امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى .. فأهل البادية يوقدون النار عادة على مرتفع من الأرض، ليراها الساري في الصحراء، فتكشف له عن الطريق، أو يجد عندها القرى والضيافة ومن يهديه إلى الطريق.
ولقد رأى موسى النار في الفلاة. فاستبشر. وذهب ليأتي منها بقبس يستدفئ به أهله، فالليلة باردة وليالي الصحراء باردة قارة. أو ليجد عندها من يهديه إلى الطريق; أو يهتدي على ضوئها إلى الطريق.
لقد ذهب يطلب قبسا من النار; ويطلب هاديا في السرى.. ولكنه وجد المفاجأة الكبرى. إنها النار التي تدفئ. لا الأجسام ولكن الأرواح. النار التي تهدي لا في السرى ولكن في الرحلة الكبرى:
فلما أتاها نودي: يا موسى إني أنا ربك. فاخلع نعليك. إنك بالواد المقدس طوى. وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى. إنني أنا الله لا إله إلا أنا، فاعبدني وأقم الصلاة لذكري. إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى. فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ..
إن القلب ليجف، وإن الكيان ليرتجف. وهو يتصور - مجرد تصور - ذلك المشهد.. موسى فريد في تلك الفلاة. والليل دامس، والظلام شامل، والصمت مخيم. وهو ذاهب يلتمس النار التي آنسها من جانب الطور. ثم إذا الوجود كله من حوله يتجاوب بذلك النداء: إني أنا ربك فاخلع نعليك. إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك ... .
إن تلك الذرة الصغيرة الضعيفة المحدودة تواجه الجلال الذي لا تدركه الأبصار. الجلال الذي تتضاءل في ظله الأرض والسماوات. ويتلقى. يتلقى ذلك النداء العلوي بالكيان البشري.. فكيف؟ كيف لولا لطف الله؟
إنها لحظة ترتفع فيها البشرية كلها وتكبر ممثلة في موسى - عليه السلام - فبحسب الكيان البشري أن يطيق التلقي من ذلك الفيض لحظة. وبحسب البشرية أن يكون فيها الاستعداد لمثل هذا الاتصال على نحو من الأنحاء.. كيف؟ لا ندري كيف! فالعقل البشري ليس هنا ليدرك ويحكم، إنما قصاراه أن يقف مبهوتا يشهد ويؤمن!
فلما أتاها نودي يا موسى : إني أنا ربك.. نودي بهذا البناء للمجهول. فما يمكن تحديد مصدر [ ص: 2331 ] النداء ولا اتجاهه. ولا تعيين صورته ولا كيفيته. ولا كيف سمعه موسى أو تلقاه.. نودي بطريقة ما فتلقى بطريقة ما. فذلك من أمر الله الذي نؤمن بوقوعه، ولا نسأل عن كيفيته، لأن كيفيته وراء مدارك البشر وتصورات الإنسان يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى .. إنك في الحضرة العلوية. فتجرد بقدميك. وفي الوادي الذي تتجلى عليه الطلعة المقدسة، فلا تطأه بنعليك.
وأنا اخترتك .. فيا للتكريم! يا للتكريم أن يكون الله بذاته هو الذي يختار. يختار عبدا من العبيد هو فرد من جموع الجموع.. تعيش على كوكب من الكواكب هو ذرة في مجموعة. المجموعة هي ذرة في الكون الكبير الذي قال له الله: كن.. فكان! ولكنها رعاية الرحمن لهذا الإنسان!
وبعد إعلانه بالتكريم والاختيار، والاستعداد والتهيؤ بخلع نعليه، يجيء التنبيه للتلقي:
فاستمع لما يوحى ..
ويلخص ما يوحى في ثلاثة أمور مترابطة: الاعتقاد بالوحدانية، والتوجه بالعبادة، والإيمان بالساعة; وهي أسس رسالة الله الواحدة:
إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري. إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى. فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ..
فأما الألوهية الواحدة فهي قوام العقيدة. والله في ندائه لموسى - عليه السلام - يؤكدها بكل المؤكدات: بالإثبات المؤكد. إنني أنا الله وبالقصر المستفاد من النفي والاستثناء: لا إله إلا أنا الأولى لإثبات الألوهية لله، والثانية لنفيها عن سواه.. وعلى الألوهية تترتب العبادة; والعبادة تشمل التوجه لله في كل نشاط الحياة; ولكنه يخص بالذكر منها الصلاة: وأقم الصلاة لذكري لأن الصلاة أكمل صورة من صور العبادة، وأكمل وسيلة من وسائل الذكر، لأنها تتمحض لهذه الغاية، وتتجرد من كل الملابسات الأخرى; وتتهيأ فيها النفس لهذا الغرض وحده، وتتجمع للاتصال بالله.
فأما الساعة فهي الموعد المرتقب للجزاء الكامل العادل، الذي تتوجه إليه النفوس فتحسب حسابه; وتسير في الطريق وهي تراقب وتحاسب وتخشى الانزلاق.. والله سبحانه يؤكد مجيئها: إن الساعة آتية وأنه يكاد يخفيها. فعلم الناس بها قليل لا يتجاوز ما يطلعهم عليه من أمرها بقدر ما يحقق حكمته من معرفتهم ومن جهلهم.. والمجهول عنصر أساسي في حياة البشر وفي تكوينهم النفسي. فلا بد من مجهول في حياتهم يتطلعون إليه. ولو كان كل شيء مكشوفا لهم - وهم بهذه الفطرة - لوقف نشاطهم وأسنت حياتهم. فوراء المجهول يجرون. فيحذرون ويأملون، ويجربون ويتعلمون. ويكشفون المخبوء من طاقاتهم وطاقات الكون من حولهم; ويرون آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق; ويبدعون في الأرض بما شاء لهم الله أن يبدعوا.. وتعليق قلوبهم ومشاعرهم بالساعة المجهولة الموعد، يحفظهم من الشرود، فهم لا يدرون متى تأتي الساعة، فهم من موعدها على حذر دائم وعلى استعداد دائم. ذلك لمن صحت فطرته واستقام. فأما من فسدت فطرته واتبع هواه فيغفل ويجهل، فيسقط ومصيره إلى الردى:
فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ..
[ ص: 2332 ] ذلك أن اتباع الهوى هو الذي ينشئ التكذيب بالساعة. فالفطرة السليمة تؤمن من نفسها بأن الحياة الدنيا لا تبلغ فيها الإنسانية كمالها، ولا يتم فيها العدل تمامه; وأنه لا بد من حياة أخرى يتحقق فيها الكمال المقدر للإنسان، والعدل المطلق في الجزاء على الأعمال.