يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء .. يذيعها سليمان - عليه السلام - في الناس تحدثا بنعمة الله، وإظهارا لفضله، لا مباهاة ولا تنفجا على الناس، ويعقب عليها إن هذا لهو الفضل المبين فضل الله الكاشف عن مصدره، الدال على صاحبه، فما يملك تعليم منطق الطير لبشر إلا الله، وكذلك لا يؤتي أحدا من كل شيء - بهذا التعميم - إلا الله.
وللطيور والحيوان والحشرات وسائل للتفاهم - هي لغاتها ومنطقها - فيما بينها، والله –سبحانه - خالق هذه العوالم يقول: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ولا تكون أمما حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها، ووسائل معينة للتفاهم فيما بينها، وذلك ملحوظ في حياة أنواع كثيرة من الطيور والحيوان والحشرات، ويجتهد علماء هذه الأنواع في إدراك شيء من لغاتها ووسائل التفاهم بينها عن طريق الحدس والظن لا عن الجزم واليقين؛ فأما ما وهبه الله لسليمان - عليه السلام - فكان شأنا خاصا به على طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر، لا على طريق المحاولة منه والاجتهاد لتفهم وسائل الطير وغيره في التفاهم، على طريق الظن والحدس، كما هو حال العلماء اليوم..
أحب أن يتأكد هذا المعنى ويتضح لأن بعض المفسرين المحدثين ممن تبهرهم انتصارات العلم الحديث يحاولون تفسير ما قصه القرآن عن سليمان - عليه السلام - في هذا الشأن بأنه نوع من إدراك لغات الطير والحيوان والحشرات على طريقة المحاولات العلمية الحديثة؛ وهذا إخراج للخارقة عن طبيعتها، وأثر من آثار الهزيمة والانبهار بالعلم البشري القليل! وإنه لأيسر شيء وأهون شيء على الله أن يعلم عبدا من عباده لغات الطير والحيوان والحشرات، [ ص: 2635 ] هبة لدنية منه، بلا محاولة ولا اجتهاد، وإن هي إلا إزاحة لحواجز النوع التي أقامها الله بين الأنواع، وهو خالق هذه الأنواع!
على أن هذا كله لم يكن إلا شقا واحدا للخارقة التي أتاحها الله لعبده سليمان، أما الشق الآخر فكان تسخير طائفة من الجن والطير لتكون تحت إمرته، وطوع أمره، كجنوده من الإنس سواء بسواء، والطائفة التي سخرها له من الطير وهبها إدراكا خاصا أعلى من إدراك نظائرها في أمة الطير.
يبدو ذلك في قصة الهدهد الذي أدرك من أحوال ملكة سبأ وقومها ما يدركه أعقل الناس وأذكاهم وأتقاهم؛ وكان ذلك كذلك على طريق الخارقة والإعجاز..
حقيقة إن سنة الله في الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه، ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان; وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام، وإنها خاضعة - كحلقة مفردة - للناموس العام، الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وجدت به.
وحقيقة إن الهدهد الذي يولد اليوم، هو نسخة من الهدهد الذي وجد منذ ألوف أو ملايين من السنين، منذ أن وجدت الهداهد،وإن هناك عوامل وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول، ومهما بلغ التحوير فيه، فهو لا يخرج من نوعه، ليرتقي إلى نوع آخر، وإن هذا - كما يبدو - طرف من سنة الله في الخلق، ومن الناموس العام المنسق للكون.
ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان أن تقع الخارقة عندما يريدها الله خالق السنن والنواميس. وقد تكون الخارقة ذاتها جزءا من الناموس العام، الذي لا نعرف أطرافه، جزءا يظهر في موعده الذي لا يعلمه إلا الله، يخرق المألوف المعهود للبشر، ويكمل ناموس الله في الخلق والتناسق العام، وهكذا وجد هدهد سليمان، وربما كل الطائفة من الطير التي سخرت له في ذلك الزمان،
ونعود من هذا الاستطراد إلى تفصيل قصة سليمان بعد وراثته لداود وإعلانه ما حباه الله به من علم وتمكين وإفضال وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ..
فهذا هو موكب سليمان محشود محشور، يتألف من الجن والإنس والطير، والإنس معروفون، أما الجن فهم خلق لا نعرف عنهم إلا ما قصه الله علينا من أمرهم في القرآن، وهو أنه خلقهم من مارج من نار، أي: من لهيب متموج من النار، وأنهم يرون البشر والبشر لا يرونهم إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم (الكلام عن إبليس أو الشيطان وإبليس من الجن) وأنهم قادرون على الوسوسة في صدور الناس بالشر عادة والإيحاء لهم بالمعصية - ولا ندري كيف - وأن منهم طائفة آمنت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرهم هو أو يعرف منهم إيمانهم ولكن أخبره الله بذلك إخبارا: قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا.. ونعرف أن الله سخر طائفة منهم لسليمان يبنون له المحاريب والتماثيل والجفان الكبيرة للطعام، ويغوصون له في البحر، ويأتمرون بأمره بإذن الله، ومنهم هؤلاء الذين يظهرون هنا في موكبه مع إخوانهم من الإنس والطير.
ونقول: إن الله سخر لسليمان طائفة من الجن وطائفة من الطير كما سخر له طائفة من الإنس، وكما أنه لم يكن كل أهل الأرض من الإنس جندا لسليمان - إذ أن ملكه لم يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين ولبنان وسوريا والعراق إلى ضفة الفرات - فكذلك لم يكن جميع الجن ولا جميع الطير مسخرين له، إنما كانت طائفة من كل أمة على السواء.
[ ص: 2636 ] ونستند في مسألة الجن إلى أن إبليس وذريته من الجن كما قال القرآن.. إلا إبليس كان من الجن .. وقال في سورة "الناس" : الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس وهؤلاء كانوا يزاولون الإغواء والشر والوسوسة للبشر في عهد سليمان. وما كانوا ليزاولوا هذا وهم مسخرون له مقيدون بأمره، وهو نبي يدعو إلى الهدى، فالمفهوم إذن أن طائفة من الجن هي التي كانت مسخرة له.
ونستند في مسألة الطير إلى أن سليمان حين تفقد الطير علم بغيبة الهدهد، ولو كانت جميع الطيور مسخرة له، محشورة في موكبه، ومنها جميع الهداهد، ما استطاع أن يتبين غيبة هدهد واحد من ملايين الهداهد فضلا على بلايين الطير، ولما قال: ما لي لا أرى الهدهد؟ فهو إذن هدهد خاص بشخصه وذاته، وقد يكون هو الذي سخر لسليمان من أمة الهداهد، أو يكون صاحب النوبة في ذلك الموكب من المجموعة المحدودة العدد من جنسه؛ ويعين على هذا ما ظهر من أن ذلك الهدهد موهوب إدراكا خاصا ليس من نوع إدراك الهداهد ولا الطير بصفة عامة؛ ولا بد أن هذه الهبة كانت للطائفة الخاصة التي سخرت لسليمان، لا لجميع الهداهد وجميع الطيور؛ فإن نوع الإدراك الذي ظهر من ذلك الهدهد الخاص في مستوى يعادل مستوى العقلاء الأذكياء الأتقياء من الناس!
حشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير، وهو موكب عظيم، وحشد كبير، يجمع أوله على آخره فهم يوزعون حتى لا يتفرقوا وتشيع فيهم الفوضى؛ فهو حشد عسكري منظم، يطلق عليه اصطلاح الجنود، إشارة إلى الحشد والتنظيم.
حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم، لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون. فتبسم ضاحكا من قولها، وقال : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ..
لقد سار الموكب؛ موكب سليمان من الجن والإنس والطير؛ في ترتيب ونظام، يجمع آخره على أوله، وتضم صفوفه، وتتلاءم خطاه، حتى إذا أتوا على واد كثير النمل، حتى لقد أضافه التعبير إلى النمل فسماه "وادي النمل" قالت نملة - لها صفة الإشراف والتنظيم على النمل السارح في الوادي - ومملكة النمل كمملكة النحل دقيقة التنظيم، تتنوع فيها الوظائف، وتؤدى كلها بنظام عجيب، يعجز البشر غالبا عن اتباع مثله، على ما أوتوا من عقل راق وإدراك عال - قالت هذه النملة للنمل، بالوسيلة التي تتفاهم بها أمة النمل، وباللغة المتعارفة بينها، قالت للنمل: ادخلوا مساكنكم - كي لا يحطمنكم سليمان وجنوده، وهم لا يشعرون بكم.
فأدرك سليمان ما قالت النملة وهش له وانشرح صدره بإدراك ما قالت، وبمضمون ما قالت، هش لما قالت كما يهش الكبير للصغير الذي يحاول النجاة من أذاه وهو لا يضمر أذاه، وانشرح صدره لإدراكه، فهي نعمة الله عليه تصله بهذه العوالم المحجوبة المعزولة عن الناس لاستغلاق التفاهم بينها وقيام الحواجز، وانشرح صدره له لأنه عجيبة من العجائب أن يكون للنملة هذا الإدراك، وأن يفهم عنها النمل فيطيع!
أدرك سليمان هذا فتبسم ضاحكا من قولها .. وسرعان ما هزته هذه المشاهدة، وردت قلبه إلى ربه الذي أنعم عليه بنعمة المعرفة الخارقة; وفتح بينه وبين تلك العوالم المحجوبة المعزولة من خلقه; واتجه إلى ربه في إنابة يتوسل إليه: