والحكم التالي يختص بعدد الطلقات، إلا في حالة واحدة: حالة المرأة الكارهة التي تخشى أن ترتكب معصية لو بقيت مقيدة بهذا الزواج المكروه. وهي حالة الخلع التي تشتري فيها المرأة حريتها بفدية تدفعها: وحق المطلقة في تملك الصداق، وحرمة استرداد شيء منه عند الطلاق،
الطلاق مرتان. فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله. فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به. تلك حدود الله فلا تعتدوها. ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ..
الطلاق الذي يجوز بعده استئناف الحياة مرتان. فإذا تجاوزهما المتجاوز لم يكن إلى العودة من سبيل إلا بشرط تنص عليه الآية التالية في السياق. وهو أن تنكح زوجا غيره، ثم يطلقها الزوج الآخر طلاقا طبيعيا لسبب من الأسباب، ولا يراجعها فتبين منه.. وعندئذ فقط يجوز لزوجها الأول أن ينكحها من جديد، إذا ارتضته زوجا من جديد.
وقد ورد في سبب نزول هذا القيد، أنه في أول العهد بالإسلام كان الطلاق غير محدد بعدد من المرات.
فكان للرجل أن يراجع مطلقته في عدتها، ثم يطلقها ويراجعها. هكذا ما شاء.. ثم الطلاق مرتان . إن رجلا من الأنصار اختلف مع زوجته فوجد عليها في نفسه، فقال: والله لا آويك ولا أفارقك. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك للرسول - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل:
وحكمة المنهج الرباني الذي أخذ به الجماعة المسلمة مطردة في تنزيل الأحكام عند بروز الحاجة إليها.. حتى استوفى المنهج أصوله كلها على هذا النحو. ولم يبق إلا التفريعات التي تلاحق الحالات الطارئة، وتنشئ حلولا مستمدة من تلك الأصول الشاملة.
وهذا التقييد جعل الطلاق محصورا مقيدا ; لا سبيل إلى العبث باستخدامه طويلا. فإذا وقعت الطلقة الأولى كان للزوج في فترة العدة أن يراجع زوجه بدون حاجة إلى أي إجراء آخر. فأما إذا ترك العدة تمضي فإنها تبين منه; ولا يملك ردها إلا بعقد ومهر جديدين. فإذا هو راجعها في العدة أو إذا هو أعاد زواجها في حالة البينونة الصغرى كانت له عليها طلقة أخرى كالطلقة الأولى بجميع أحكامها. فأما إذا طلقها الثالثة فقد بانت منه بينونة كبرى بمجرد إيقاعها فلا رجعة فيها في عدة، ولا عودة بعدها إلا أن ينكحها زوج آخر. ثم [ ص: 248 ] يقع لسبب طبيعي أن يطلقها. فتبين منه لأنه لم يراجعها. أو لأنه استوفى عليها عدد مرات الطلاق. فحينئذ فقط يمكن أن تعود إلى زوجها الأول.
إن الطلقة الأولى محك وتجربة كما بينا. فأما الثانية فهي تجربة أخرى وامتحان أخير. فإن صلحت الحياة بعدها فذاك. وإلا فالطلقة الثالثة دليل على فساد أصيل في حياة الزوجية لا تصلح معه حياة.
وعلى أية حال فما يجوز أن يكون الطلاق إلا علاجا أخيرا لعلة لا يجدي فيها سواه. فإذا وقعت الطلقتان : فإما إمساك للزوجة بالمعروف، واستئناف حياة رضية رخية; وإما تسريح لها بإحسان لا عنت فيه ولا إيذاء.
وهو الطلقة الثالثة التي تمضي بعدها الزوجة إلى خط في الحياة جديد.. وهذا هو التشريع الواقعي الذي يواجه الحالات الواقعة بالحلول العملية; ولا يستنكرها حيث لا يجدي الاستنكار، ولا يعيد خلق بني الإنسان على نحو آخر غير الذي فطرهم الله عليه. ولا يهملها كذلك حيث لا يجدي الإهمال!.
ولا يحل للرجل أن يسترد شيئا من صداق أو نفقة أنفقها في أثناء الحياة الزوجية في مقابل تسريح المرأة إذا لم تصلح حياته معها. ما لم تجد هي أنها كارهة لا تطيق عشرته لسبب يخص مشاعرها الشخصية; وتحس أن كراهيتها له، أو نفورها منه، سيقودها إلى الخروج عن حدود الله في حسن العشرة، أو العفة، أو الأدب. فهنا يجوز لها أن تطلب الطلاق منه; وأن تعوضه عن تحطيم عشه بلا سبب متعمد منه; برد الصداق الذي أمهرها إياه، أو بنفقاته عليها كلها أو بعضها لتعصم نفسها من معصية الله وتعدي حدوده، وظلم نفسها وغيرها في هذه الحال. وهكذا يراعي الإسلام جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس; ويراعي مشاعر القلوب الجادة التي لا حيلة للإنسان فيها; ولا يقسر الزوجة على حياة تنفر منها; وفي الوقت ذاته لا يضيع على الرجل ما أنفق بلا ذنب جناه.
ولكي نتصور حيوية هذا النص ومداه، يحسن أن نراجع سابقة واقعية من تطبيقه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكشف عن مدى الجد والتقدير والقصد والعدل في هذا المنهج الرباني القويم.
روى في كتابه: الموطأ.. الإمام مالك حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت . وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في الصبح، فوجد ثابت بن قيس بن شماس حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنت سهل ! فقال: "ما شأنك؟" فقالت: لا أنا ولا - لزوجها - فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "هذه ثابت بن قيس حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر .. فقالت حبيبة : يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خذ منها" فأخذ منها وجلست في أهلها . أن
وروى - بإسناده - عن البخاري رضي الله عنهما - ابن عباس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله. ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتردين عليه حديقته؟" "وكان قد أمهرها حديقة" قالت: نعم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ثابت بن قيس بن شماس .. أن امرأة
وفي رواية أكثر تفصيلا رواها بإسناد - عن ابن جرير أبي جرير أنه سأل : هل كان للخلع أصل؟ عكرمة
قال: كان يقول: ابن عباس عبد الله بن أبي . إنها أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا. إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. فقال زوجها: يا رسول الله [ ص: 249 ] إني قد أعطيتها أفضل مالي: حديقة لي فإن ردت علي حديقتي. قال: ما تقولين؟ قالت: نعم وإن شاء زدته. قال: ففرق بينهما .. إن أول خلع كان في الإسلام في أخت
ومجموعة هذه الروايات تصور الحالة النفسية التي قبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وواجهها مواجهة من يدرك أنها حالة قاهرة لا جدوى من استنكارها وقسر المرأة على العشرة; وأن لا خير في عشرة هذه المشاعر تسودها. فاختار لها الحل من المنهج الرباني الذي يواجه الفطرة البشرية مواجهة صريحة عملية واقعية; ويعامل النفس الإنسانية معاملة المدرك لما يعتمل فيها من مشاعر حقيقية.
ولما كان مرد الجد أو العبث، والصدق أو الاحتيال، في هذه الأحوال.. هو تقوى الله، وخوف عقابه.
جاء التعقيب يحذر من اعتداء حدود الله:
تلك حدود الله فلا تعتدوها. ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ..
ونقف هنا وقفة عابرة أمام اختلاف لطيف في تعبيرين قرآنيين في معنى واحد، حسب اختلاف الملابستين:
في مناسبة سبقت في هذه السورة عند الحديث عن الصوم. ورد تعقيب: تلك حدود الله فلا تقربوها ..
وهنا في هذه المناسبة ورد تعقيب: تلك حدود الله فلا تعتدوها ..
في الأولى تحذير من القرب. وفي الثانية تحذير من الاعتداء.. فلماذا كان الاختلاف؟ في المناسبة الأولى كان الحديث عن محظورات مشتهاة:
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم.. هن لباس لكم وأنتم لباس لهن.. علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم، فتاب عليكم وعفا عنكم، فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم. وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. ثم أتموا الصيام إلى الليل، ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد.. تلك حدود الله فلا تقربوها ..
والمحظورات المشتهاة شديدة الجاذبية. فمن الخير أن يكون التحذير من مجرد الاقتراب من حدود الله فيها، اتقاء لضعف الإرادة أمام جاذبيتها إذا اقترب الإنسان من مجالها ووقع في نطاق حبائلها!.
أما هنا فالمجال مجال مكروهات واصطدامات وخلافات. فالخشية هنا هي الخشية من تعدي الحدود في دفعة من دفعات الخلاف; وتجاوزها وعدم الوقوف عندها. فجاء التحذير من التعدي لا من المقاربة. بسبب اختلاف المناسبة.. وهي دقة في التعبير عن المقتضيات المختلفة عجيبة!.
ثم نمضي مع السياق في أحكام الطلاق:
فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره. فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا. إن ظنا أن يقيما حدود الله. وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون ..
إن الطلقة الثالثة - كما تبين - دليل على فساد أصيل في هذه الحياة لا سبيل إلى إصلاحه من قريب - إن كان الزوج جادا عامدا في الطلاق - وفي هذه الحالة يحسن أن ينصرف كلاهما إلى التماس شريك جديد. فأما إن كانت تلك الطلقات عبثا أو تسرعا أو رعونة، فالأمر إذن يستوجب وضع حد للعبث بهذا الحق، الذي قرر ليكون صمام أمن، وليكون علاجا اضطراريا لعلة مستعصية، لا ليكون موضعا للعبث والتسرع والسفاهة. [ ص: 250 ] ويجب حينئذ أن تنتهي هذه الحياة التي لا تجد من الزوج احتراما لها، واحتراسا من المساس بها.
وقد يقول قائل: وما ذنب المرأة تهدد حياتها وأمنها واستقرارها بسبب كلمة تخرج من فم رجل عابث؟ ولكننا نواجه واقعا في حياة البشر. فكيف يا ترى يكون العلاج، إن لم نأخذ بهذا العلاج؟ تراه يكون بأن نرغم مثل هذا الرجل على معاشرة زوجة لا يحترم علاقته بها ولا يوقرها؟ فنقول له مثلا: إننا لا نعتمد طلاقك هذا ولا نعترف به ولا نقره! وهذه هي امرأتك على ذمتك فهيا وأمسكها! .. كلا إن في هذا من المهانة للزوجة وللعلاقة الزوجية ما لا يرضاه الإسلام، الذي يحترم المرأة ويحترم علاقة الزوجية ويرفعها إلى درجة العبادة لله.. إنما تكون عقوبته أن نحرمه زوجه التي عبث بحرمة علاقاتها معه; وأن نكلفه مهرا وعقدا جديدين أن تركها تبين منه في الطلقتين الأوليين; وأن نحرمها عليه في الطلقة الثالثة تحريما كاملا - إلا أن تنكح زوجا غيره - وقد خسر صداقها وخسر نفقته عليها; ونكلفه بعد ذلك نفقة عدة في جميع الحالات..
والمهم أن ننظر إلى واقع النفس البشرية; وواقع الحياة العملية; لا أن نهوم في رؤى مجنحة ليست لها أقدام تثبت بها على الأرض، في عالم الحياة!.
فإذا سارت الحياة في طريقها فتزوجت بعد الطلقة الثالثة زوجا آخر . ثم طلقها هذا الزوج الآخر.. فلا جناح عليها وعلى زوجها الأول أن يتراجعا.. ولكن بشرط:
إن ظنا أن يقيما حدود الله ..
فليست المسألة هوى يطاع، وشهوة تستجاب. وليسا متروكين لأنفسهما وشهواتهما ونزواتهما في تجمع أو افتراق. إنما هي حدود الله تقام. وهي إطار الحياة الذي إن أفلتت منه لم تعد الحياة التي يريدها ويرضى عنها الله.
وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون . فمن رحمته بالعباد أنه لم يترك حدوده غامضة ولا مجهولة. إنما هو يبينها في هذا القرآن. يبينها لقوم يعلمون فالذين يعلمون حق العلم هم الذين يعلمونها ويقفون عندها; وإلا فهو الجهل الذميم، وهي الجاهلية العمياء!.
بعد ذلك يجيء التوجيه الإلهي للأزواج المطلقين . توجيههم إلى المعروف واليسر والحسنى بعد الطلاق في جميع الأحوال:
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه. ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم، وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم. وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر. ذلكم أزكى لكم وأطهر. والله يعلم وأنتم لا تعلمون ..
إن المعروف والجميل والحسنى يجب أن تسود جو هذه الحياة. سواء اتصلت حبالها أو انفصمت عراها. ولا يجوز أن تكون نية الإيذاء والإعنات عنصرا من عناصرها. ولا يحقق هذا المستوى الرفيع من السماحة في حالة الانفصال والطلاق التي تتأزم فيها النفوس، إلا عنصر أعلى من ملابسات الحياة الأرضية. عنصر يرفع النفوس عن الإحن والضغن، ويوسع من آفاق الحياة ويمدها وراء الحاضر الواقع الصغير.. هو عنصر الإيمان [ ص: 251 ] بالله. والإيمان باليوم الآخر. وتذكر نعمة الله في شتى صورها ابتداء من نعمة الإيمان - أرفع النعم - إلى نعمة الصحة والرزق، واستحضار تقوى الله والرجاء في العوض منه عن الزوجية الفاشلة والنفقة الضائعة..
وهذا العنصر الذي تستحضره الآيتان اللتان تتحدثان هنا عن إيثار المعروف والجميل والحسنى ، سواء اتصلت حبال الحياة الزوجية أو انفصمت عراها.
ولقد كانت المرأة في الجاهلية تلاقي من العنت ما يتفق وغلظ الجاهلية وانحرافها. كانت تلقى هذا العنت طفلة توأد في بعض الأحيان، أو تعيش في هون ومشقة وإذلال! وكانت تلقاه زوجة هي قطعة من المتاع للرجل، أغلى منها الناقة والفرس وأعز! وكانت تلقاه مطلقة. تعضل فتمنع من الزواج حتى يسمح مطلقها ويأذن! أو يعضلها أهلها دون العودة إلى مطلقها، إن أرادا أن يتراجعا.. وكانت النظرة إليها بصفة عامة نظرة هابطة زرية; شأنها في هذا شأن سائر الجاهليات السائدة في الأرض في ذلك الأوان.
ثم جاء الإسلام.. جاء ينسم على حياة المرأة هذه النسمات الرخية التي نرى هنا نماذج منها. وجاء يرفع النظرة إليها فيقرر أنها والرجل نفس واحدة من خلقة بارئها.. وجاء يرتفع بالعلاقات الزوجية إلى مرتبة العبادة عند الإحسان فيها.. هذا ولم تطلب المرأة شيئا من هذا ولا كانت تعرفه. ولم يطلب الرجل شيئا من هذا ولا كان يتصوره. إنما هي الكرامة التي أفاضها الله من رحمته للجنسين جميعا، على الحياة الإنسانية جميعا..
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف. ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ..
والمقصود ببلوغ الأجل هنا هو قرب انتهاء العدة التي قررها في آية سابقة. فإذا قرب الأجل فإما رجعة على نية الإصلاح - والمعاملة بالمعروف - وهذا هو الإمساك بالمعروف.. وأما ترك الأجل يمضي فتبين الزوجة - وهذا هو التسريح بإحسان، بدون إيذاء ولا طلب فدية من الزوجة وبدون عضل لها عن الزواج بمن تشاء..
ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ..
وذلك كالذي روي عن الأنصاري الذي قال لامرأته: والله لا آويك ولا أفارقك! فهذا هو الإمساك بغير إحسان . إمساك الضرار الذي لا ترضاه سماحة الإسلام. وهو الإمساك الذي تكرر النهي عنه في هذا السياق; لأنه فيما يبدو كان شائعا في البيئة العربية: ويمكن أن يشيع في أية بيئة لم يهذبها الإسلام، ولم يرفعها الإيمان..
وهنا يستجيش القرآن أنبل المشاعر; كما يستجيش عاطفة الحياء من الله، وشعور الخوف منه في آن.
ويحشد هذه المؤثرات كلها ليخلص النفوس من أوضاع الجاهلية وآثارها; ويرتفع بها إلى المستوى الكريم الذي يأخذ بيدها إليه:
ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه. ولا تتخذوا آيات الله هزوا. واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به. واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ..
إن الذي يمسك المطلقة ضرارا واعتداء يظلم نفسه. فهي أخته. من نفسه. فإذا ظلمها فقد ظلم نفسه. وهو يظلم نفسه بإيرادها مورد المعصية، والجموح بها عن طريق الطاعة.. وهذه هي اللمسة الأولى.
وآيات الله التي بينها في العشرة والطلاق واضحة مستقيمة جادة، تقصد إلى تنظيم هذه الحياة وإقامتها على الجد والصدق فإذا هو استغلها في إلحاق الإضرار والأذى بالمرأة، متلاعبا بالرخص التي جعلها الله متنفسا وصمام أمن، واستخدم حق الرجعة الذي جعله الله فرصة لاستعادة الحياة الزوجية وإصلاحها، في إمساك [ ص: 252 ] المرأة لإيذائها وإشقائها.. إذا فعل شيئا من هذا فقد اتخذ آيات الله هزوا - وذلك كالذي نراه في مجتمعنا الجاهلي الذي يدعي الإسلام في هذه الأيام، من استخدام الرخص الفقهية وسيلة للتحايل والإيذاء والفساد. ومن استخدام حق الطلاق ذاته أسوأ استخدام - وويل لمن يستهزئ بآيات الله دون حياء من الله.
ويستجيش وجدان الحياء والاعتراف بالنعمة. وهو يذكرهم بنعمة الله عليهم وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به.. وتذكير المسلمين يومذاك بنعمة الله عليهم كان يستجيش معاني ضخمة واقعة في حياتهم، شاملة لهذه الحياة..
وأول ما كان يخطر على بالهم من نعمة الله عليهم، هو وجودهم ذاته كأمة.. فماذا كان أولئك العرب والأعراب قبل أن يأتيهم الإسلام ؟ أنهم لم يكونوا شيئا مذكورا. لم تكن الدنيا تعرفهم ولا تحس بهم. كانوا فرقا ومزقا لا وزن لها ولا قيمة. لم يكن لديهم شيء يعطونه للبشرية فتعرفهم به. بل لم يكن لديهم شيء يعطونه لأنفسهم فيغنيهم. لم يكن لديهم شيء على الإطلاق. لا مادي ولا معنوي.. كانوا فقراء يعيشون في شظف.
إلا قلة منهم تعيش في ترف، ولكنه ترف غليظ ساذج هابط أشبه شيء بترف الأوابد التي تكثر في أوكارها الفرائس! وكانوا كذلك فقراء العقل والروح والضمير. عقيدتهم مهلهلة ساذجة سخيفة. وتصورهم للحياة بدائي قبلي محدود. واهتماماتهم في الحياة لا تتعدى الغارات الخاطفة، والثارات الحادة، واللهو والشراب والقمار، والمتاع الساذج الصغير على كل حال!.
ومن هذه الوهدة المغلقة أطلقهم الإسلام. بل أنشأهم إنشاء. أنشأهم ومنحهم الوجود الكبير، الذي تعرفهم به الإنسانية كلها. أعطاهم ما يعطونه لهذه الإنسانية. أعطاهم العقيدة الضخمة الشاملة التي تفسر الوجود كما لم تفسره عقيدة قط; والتي تمكنهم من قيادة البشرية قيادة راشدة رفيعة. وأعطاهم الشخصية المميزة بهذه العقيدة التي تجعل لهم وجودا بين الأمم والدول، ولم يكن لهم قبلها أدنى وجود. وأعطاهم القوة التي تعرفهم بها الدنيا وتحسب لهم معها حسابا، وكانوا قبلها خدما للإمبراطوريات من حولهم، أو مهملين لا يحس بهم أحد.
وأعطاهم الثروة كذلك بما فتح عليهم في كل وجهة.. وأكثر من هذا أعطاهم السلام، سلام النفس. وسلام البيت وسلام المجتمع الذي يعيشون فيه. أعطاهم طمأنينة القلب وراحة الضمير والاستقرار على المنهج والطريق. وأعطاهم الاستعلاء الذي ينظرون به إلى قطعان البشرية الضالة في أرجاء الجاهلية المترامية الأطراف; في الأرض فيحسون أن الله آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين..
فإذا ذكرهم الله بالنعمة هنا، فهم يذكرون شيئا حاضرا في حياتهم لا يحتاج إلى طول تذكر. وهم هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية ثم عاشوا في الإسلام في جيل واحد. وشهدوا هذه النقلة البعيدة التي لا تحققها إلا خارقة فوق تصور البشر.. وهم يذكرون هذه النعمة ممثلة فيما أنزل الله عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به..
والقرآن يقول لهم: وما أنزل عليكم .. بضمير المخاطب; ليشعروا بضخامة الإنعام وغزارة الفيض ولصوق النعمة بأشخاصهم، والله ينزل عليهم هذه الآيات، التي يتألف منها المنهج الرباني، ومنه دستور الأسرة قاعدة الحياة..
ثم يلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة في هذه الآية، وهو يخوفهم الله ويذكرهم أنه بكل شيء عليم:
واتقوا الله، واعلموا أن الله بكل شيء عليم . فيستجيش شعور الخوف والحذر، بعد شعور الحياء والشكر.. ويأخذ النفس من أقطارها، ليقودها في طريق السماحة والرفق والتجمل.. [ ص: 253 ] كذلك ينهاهم أن يعضلوا المطلقة - حين توفي العدة - ويمنعوها أن تتراجع مع زوجها إذا تراضيا بالمعروف:
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ..
وقد أورد الترمذي ، أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت عنده ما كانت. ثم طلقها تطليقة لم يراجعها، حتى انقضت عدتها; فهويها وهويته; ثم خطبها مع الخطاب. فقال له: يا لكع ابن لكع! أكرمتك بها وزوجتكها، فطلقتها. والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك. قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله: معقل بن يسار وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن إلى قوله: وأنتم لا تعلمون .. فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة. ثم دعاه، فقال: أزوجك وأكرمك .. عن
وهذه الاستجابة الحانية من الله - سبحانه - لحاجات القلوب التي علم من صدقها ما علم، تكشف عن جانب من رحمة الله بعباده.. أما الآية بعمومها فيبدو فيها التيسير الذي أراده الله بالعباد، والتربية التي أخذ بها المنهج القرآني الجماعة المسلمة، والنعمة التي أفاضها عليها بهذا المنهج القويم، الذي يواجه الواقع من حياة الناس في جميع الأحوال.
وهنا كذلك يستجيش الوجدان والضمير بعد النهي والتحذير:
ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر. ذلكم أزكى لكم وأطهر. والله يعلم وأنتم لا تعلمون ..
والإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي يجعل هذه الموعظة تبلغ إلى القلوب. حين تتعلق هذه القلوب بعالم أرحب من هذه الأرض وحين تتطلع إلى الله ورضاه فيما تأخذ وما تدع.. والشعور بأن الله يريد ما هو أزكى وما هو أطهر من شأنه أن يستحث المؤمن للاستجابة، واغتنام الزكاة والطهر. لنفسه وللمجتمع من حوله. ولمس القلب بأن الذي يختار له هذا الطريق هو الله الذي يعلم ما لا يعلمه الناس من شأنه أن يسارع به إلى الاستجابة كذلك في رضى وفي استسلام.
وهكذا يرفع الأمر كله إلى أفق العبادة، ويعلقه بعروة الله، ويطهره من شوائب الأرض، وأدران الحياة، وملابسات الشد والجذب التي تلازم جو الطلاق والفراق..