قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم الآية (11) :
اعلم أن الناس في الجاهلية كانوا يخصصون الذكور المقاتلين على الخيل والذابين عن الحرم بالميراث، وما كانوا يورثون الصغار ولا الإناث، وقد ورد في بعض الآثار، أن الأمر كان على ذلك في صدر الإسلام، إلى أن نسخته هذه الآية، ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك، بل ثبت خلافه، فإن حين جاءت امرأة بابنتها من سعد بن الربيع، فقالت: يا رسول الله: سعد
هاتان ابنتا قتل أبوهما معك يوم أحد وقد استوفى عمهما مالهما، وإن المرأة لا تنكح إلا ولها مال، فنزلت هذه الآية. سعد هذه الآية نزلت في ورثة
وقيل: نزلت في ورثة والأول أصح عند أهل النقل ، فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الميراث من العم، ولو كان ثابتا من قبل في شرعنا ما استرجعه. ثابت بن قيس بن شماس،
[ ص: 338 ] ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبي ما كان يعطى الميراث حتى يقاتل على الفرس، ويذب عن الحريم.
واعلم أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب:
منها: الحلف والتبني والمعاقدة:
ومنه قوله: والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم .
وقال آخرون: ما كان الميراث ثابتا قط بالمعاقدة، والذي في القرآن من قوله: والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من الموالاة والنصرة والمعافاة والمشورة.
نعم هذا الخيال إنما نشأ من شيء، وهو أن الله تعالى قال:
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا .
فظنوا أن الآية دلت على ثبوت الميراث بوجه آخر، وليس الأمر كذلك، فإن المراد بذلك: وأولو الأرحام أولى من المؤمنين، فإن المؤمنين ورثة، إذ المراد ذوو الأرحام.
وقوله: إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا الوصية، وإلا فلا ثبوت للميراث بالمعاقدة من جهة النص، والآثار متعارضة، والذي في القرآن:
[ ص: 339 ] والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء .
إنما عنى به في الميراث بالإسلام، إذا لم تكن قرابة، فإن رضي الله عنه، يرى المسلمين ورثة في ذلك الوقت، ما كان الإسلام كافيا في هذا المعنى دون المهاجرة مع الإسلام، وإلا فلا وجه لدعوى من يدعي أن المحالفة المجردة، أو الهجرة المجردة، مورثة مع وجود الهجرة في حق ذوي الأرحام والعصبات، إذ جائز أن يكون قوله: الشافعي فآتوهم نصيبهم أي: آتوهم نصيبهم من الوصية، ولعله كانت الوصية واجبة لهؤلاء، ثم نسخت الوصية، والأول أظهر.
يرى التوريث بالحلف والمعاقدة، ويقول: إن حكمها ما نسخ، ولكن جعلت الرحم أولى منها. وأبو حنيفة
فهو يرى أن الأسباب التي يورث بها شتى، فمنها الإسلام، ومنها المعاقدة والتواخي في الدين، والاتحاد في الديوان، وفوقها الولاء، وفوقها الزوجية، وكان الرجل إذا مات اعتدت امرأته سنة كاملة في بيته، ينفق عليها من تركته، وهو قوله:
والذين يتوفون منكم إلى قوله: متاعا إلى الحول ثم نسخ ذلك بالربع والثمن.
وقوله: يوصيكم الله في أولادكم ، نسخ به وجوب الميراث للذين ذكر ميراثهم في كتاب الله تعالى، والأقربون الذين ليسوا بوارثين، فأبان دخولهم تحت اللفظ تعينا، ولكن اللفظ عموم في حقهم، فلم يتبين قطعا وجوب الوصية لأولئك النفر، الذين لم يبين الله ميراثهم، فلا نسخ من هذا الوجه، وإنما هو تخصيص عموم.
[ ص: 340 ] والدليل عليه أن كل الميراث لهؤلاء المذكورين، وما قال الشرع للعصبة كل الميراث وللبنتين الثلثان، بل كان يقال: للوصية قسط واجب، فما يفضل عنها فهو لكذا، ولم يتبين وجوب الوصية في هذه الآية بل قال: من بعد وصية يوصي بها أو دين ، وربما كان الدين أو لم يكن، وربما كانت الوصية أو لم تكن، فهذا تمام ما يتعلق بهذا النوع.
قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم ، حقيقة في أولاد الصلب فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز، وإذا حلف لا ولد له وله ولد ابن لم يحنث، فإذا أوصى لولد فلان، لم يدخل فيه ولد ولده، يقول: إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب، ومعلوم أن حقائق الألفاظ لم تتغير بما قالوه. وأبو حنيفة
وقوله: للذكر مثل حظ الأنثيين : ليس فيه تقدير ميراث كل واحد منهم ومبلغ ما يستحقه، بل فيه أن ما كان من قليل أو كثير فبين الأولاد على هذه النسبة، وذلك يتناول ما فضل عن أصحاب الفرائض، وما يأخذون من جميع المال إذا لم يكن صاحب فرض.
[ ص: 341 ] وإذا لم يكن في ميراثهم تحديد، فالذي يصل إليهم هو تمام حقهم قل أو كثر، وذلك يقتضي تقديم أصحاب الفرائض، فإنه لو لم يفعل ذلك لم يكمل لهم حقهم، وإذا قدم وفضل شيء، فقد استوفى العصبة تمام حقه، فهذا وجه البداية بأصحاب الفروض.