[ ص: 392 ] قوله تعالى: حرمت عليكم أمهاتكم الآية (23) :
حرم الله تعالى من النسب سبعا ومن الصهر سبعا ثم قال:
كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم .
واللفظ ليس حقيقة في أمهات الأمهات، وأمهات الآباء، والأجداد، والتحريم شامل ، نعم، اسم الأمهات ينطلق عليهن عرفا، فلا جرم اكتفى بإطلاق العرف عن ذكرهن.
والدليل على أن اسم الأمهات ليس حقيقة في الجدات، أن الصحابة لم يفهموا من ميراث الأبوين ميراث الجدات والأجداد، حتى بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستنبطه أهل الإجماع بدقيق النظر، وروى لهم الراوي واختلفوا في الجد مع الأخ، ولم يجهلوا معنى الاسم، وكان الإجماع انعقد على تحريم الجدات وهو الأصل. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم الجدة بالسدس،
فإذا ثبت ذلك، فقد حرم الله تعالى بعد الأمهات الأخوات، وذكر بنات الأخوات، وبنات الأخ، لأن اسم الأخ لا يتناول ابن الأخ مجازا ولا حقيقة.
واعلم أن الله تعالى وضع هذا التحريم على ترتيب عجيب، فحرم أولا أصول الإنسان عليه وفصوله، وفصول أصوله الأولى بلا نهاية، وحرم فصول فصوله بلا نهاية، وحرم أول فصول كل أصل ليس قبله أصل إلى غير نهاية، وهو أولاد الإخوة والأخوات، وحرم أول فصل من كل أصل قبله أصل آخر بينه وبين الناكح، وهو أولاد الجد وأبو [ ص: 393 ] الجد، فإن التحريم مقصور، وابنة الخال، على أول فصل، فابنة العم، وابنة العمة، وابنة الخالة حلال، ثم قال: وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم .
فحرم من الرضاع ما حرم من النسب، غير أن في الرضاع لم يذكر بنات الأخ والعمات والخالات من الرضاعة، ودل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
وقال تعالى: وأمهات نسائكم .
وقد حرم الله تعالى الأم من الرضاعة، من غير تعرض لما به يحصل الرضاع من مقدار الرضاع ومدته، فالتعلق بهذه الآية في إثبات التحريم بالرضعة الواحدة تعلق بالعموم، الذي سيق لغرض آخر غير غرض التعميم، إلا أن صيغة العموم وقعت صلة في الكلام زائدة، ليتوصل بها إلى غرض آخر يستنكره في سياقته، للتعريج على ذكر تفصيل ما يتعلق به حرمة الرضاع، وفي مثله يقول رضي الله عنه. الشافعي
الكلام يجمل في غير مقصوده ويفصل في مقصوده.
وفي الأصوليين من يخالف ذلك.
وقد شرحنا ذلك في تصانيفنا في الأصول، واليد العليا لمن يذب عن مذهب رضي الله عنه في ذلك، وهو منع الاستدلال بهذا الجنس من العموم. الشافعي
وذكر في هذا المقام، أن أخبار آحاد النصوص لا يجوز أن [ ص: 394 ] يخصص بها هذا العموم، فضلا عن منع التعلق به، وفيما قدمناه ما يبين فساد قوله. الرازي
واختلف الناس في وهو أن يتزوج المرأة فتلد منه ولدا ويدر لها لبنا بعد ولادتها منه، فترضع منه صبيا. لبن الفحل،
فأكثر العلماء على أن لبن هذا الفحل، يحرم هذا الصبي على أولاد الرجل، وإن كانوا من غيرها، ومن لا يعتبر لا يوجب تحريما بينه وبين أولاده من غيرها.
فمن قال بلبن الفحل ابن عباس.
وقال كرهه قوم، ولم ير به قوم بأسا، ومن كرهه كان أفقه. ابن سيرين:
وهو قول وعليه الفقهاء المعتبرون مثل القاسم بن محمد، الشافعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأصحابه جميعا. وأبي حنيفة
وخالف سعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقالوا: لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجل. وأبو سلمة بن عبد الرحمن،
وقوله تعالى: وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، يدل على أن الفحل أب، لأن اللبن منسوب إليه، فإنه در بسبب ولده وهذا ضعيف، فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعا، واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل، وما كان من الرجل إلا وطء هو سبب لنزول الماء منه، وإذا حصل الولد، خلق الله اللبن، من غير أن يكون اللبن مضافا إلى [ ص: 395 ] الرجل بوجه ما، ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن، وإنما اللبن لها فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقتضي "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"، ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل، مثل ظهور نسبة الماء إليه، والرضاع منها، لا جرم الأصل فيه حديث التحريم من الرضاع، الزهري عن وهشام ابن عروة عروة رضي الله عنها، أن عائشة أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة، بعد أن نزل الحجاب، قالت: فأبيت أن آذن له، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فقال: ليلج عليك، فإنه عمك تربت يمينك، وقال: عن أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت رضي الله عنها.. وهذا أيضا خبر واحد. عائشة
ويحتمل أن يكون أفلح مع رضيعي لبان، فلذلك قال: أبي بكر وإلا فلم يثبت أنه كان الرضاع قبل التزوج أو بعده، أو كانت امرأة "ليلج عليك فإنه عمك"، أبي قعيس ولدت منه، فإن قدرت هذه الأمور، فيجوز أن يقدر به ما قال المخالف.
وبالجملة، القول فيه مشكل والعلم عند الله تعالى، ولكن العمل عليه والاحتياط في التحريم أولى، مع أن قوله: وأحل لكم ما وراء ذلكم ، يقوي قول المخالف فاعلمه.