ولما بين أنهم كافون مكفيون، وكان ذلك مشروطا بفعل الكيس والحزم وهو الاجتهاد بحسب الطاقة، أمره بأن يأمرهم بما يكونون به كافين من الجد في القتال وعدم الهيبة للأبطال في حال من الأحوال، فقال معبرا بالوصف الناظر إلى جهة التلقي عن الله ليشتد وثوق السامع لما يسمعه: يا أيها النبي أي: الرفيع المنزلة عندنا الممنوح من إخبارنا بكل ما يقر عينه وعين أتباعه حرض المؤمنين أي: الغريقين في الإيمان على القتال أي: بالغ في حثهم عليه وندبهم بكل سبيل إليه، ومادة حرض - بأي ترتيب كان - حرض، حضر، رحض، رضح، ضرح; ترجع إلى الحضور ويلزمه الخفض والدعة، ويلزم الكسل فيلزمه الضعف فيلزمه الفساد، ومنه الحرض الذي أشفى على الهلاك، أي: حضر هلاكه وحضر هو موضعه الذي هو فيه فصار لما به لا يزايله ما دام حيا، ورحض الثوب، أي: غسله، من الدعة التي هي شأن الحضور غير المسافرين، والرحضاء عرق الحمى تشبيه بالمغسول، والمرضاح الحجر الذي لا يزال حاضرا لرضح النوى، والضريح شق مستطيل يوضع فيه الميت فيكون حاضره لازما له دائما إلى الوقت المعلوم، ويلزمه الرمي [ ص: 321 ] والطول، ومنه المضرحي للطويل الجناحين من الصقور لأن كل صيد عنده حاضر لقوة طيرانه، والرجل الكريم لعلو همته، وأحضرت الدابة: عدت فجعلت الغائب حاضرا، والتحريض الحث على حضور الشيء، فحرض على القتال: حث على الطيران إليه بتعاطي أسبابه والاستعداد لحضوره حتى يصير المحثوث كأنه حاضر، متى قيل: يا صباحاه! طار إلى المنادي، وكان أول حاضر إلى النادي؛ لأنه لا مانع له من شيء من الأشياء بل استعداده استعداد الحاضر في الصف; وقال الإمام أبو الحسن علي بن عيسى الرماني في تفسيره: والتحريض: الدعاء الوكيد لتحريك النفس على أمر من الأمور، والحث والتحريض والتحضيض نظائر، ونقيضه التفسير، والتحريض ترغيب في الفعل بما يبعث على المبادرة إليه مع الصبر عليه. انتهى.
فهذه حقيقته، لا ما قال في الكشاف وتبعه عليه البيضاوي .
ولما ندبهم إلى القتال، أعلمهم بأنهم منصورون فيه إن لازموا آلة النصر، فقال استئنافا جوابا لمن قال: ما عاقبتهم إذا رغبوا فبادروا إلى ذلك؟ إن يكن ولما كانت لذة الخطاب تثير الهمم وتبعث العزائم وتوجب غاية الوثوق بالوعد، عدل عن الغيبة فقال: منكم عشرون أي: رجلا: صابرون أي: الصبر المتقدم يغلبوا مائتين أي: من [ ص: 322 ] الكفار، والآية من الوعد الصادق الذي حققه وقائع الصحابة رضي الله عنهم وإن يكن منكم مائة أي: صابرة يغلبوا ألفا أي: كائنين من الذين كفروا فالآية من الاحتباك: أثبت في الأول وصف الصبر دليلا على حذفه ثانيا، وفي الثاني الكفر دليلا على حذفه أولا; ولعل ما أوجبه عليهم من هذه المصابرة علة للأمر بالتحريض، أي: حرضهم لأني أعنت كلا منهم على عشرة، فلا عذر لهم في التواني; وعلل علوهم عليهم وغلبتهم لهم على هذا الوجه بقوله: بأنهم أي: هذا الذي أوجبته ووعدت بالنصر عنده بسبب أنهم، أي: الكفار قوم لا يفقهون أي: ليس لهم فقه يعلمون به علم الحرب الذي دربه أهل الإيمان وإن كنتم ترونهم أقوياء الأبدان فيهم كفاية للقيام بما ينوبهم من أمر الدنيا لأنهم أبدان بغير معان، كما أن الدنيا كذلك صورة بلا روح؛ لأنهم لم يبنوا مصادمتهم على تلك الدعائم الخمس التي قدمتها لكم وألهمتكم إياها في بدر، فمن لم يجمعها لم يفقه الحرب؛ لأن الجيش إن لم يكن له رئيس يرجع إليه لم يفلح، وذلك الرئيس إن لم يكن أمره مستندا إلى ملك الملوك كان قلبه ضعيفا، وعزمه - وإن كثرت جموعه - مضطربا، فإنهم يكونون صورا لا معاني لها، والصور منفعلة لا فعالة، والمعاني هي الفعالة، والمعتمد على الله صورته مقترنة بالمعنى، فأقل ما يكون في مقابلة اثنين من أعدائه كما حط عليه الأمر [ ص: 323 ] في الجهاد، ولعل هذا هو السر في انتصار الخوارج - من أتباع شبيب وأنظاره على قلتهم - على الجيوش التي كانوا يلقونها عن ملوك زمانهم على كثرتهم، فإن الخوارج معتقدون أن قتالهم لله مستندين في هذا الاعتقاد إلى ظلم أولئك الملوك وخروجهم عن أمر الله، والذين يلقونهم عن أولئك الملوك وإن اعتقدوا أنهم أهل طاعة لطاعتهم الإمام الواجب طاعته، لكنهم يعلمون أن استناد إمامهم إلى الله ضعيف لمخالفته لمنهاج الاستقامة، وذلك الرئيس نفسه معتقد ذلك وأن ولايته مفسدة، وأن تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لقتاله إنما هو درء لأعظم المفسدتين، فصار استناد الخوارج إلى ملك الملوك أعظم من استناد أولئك، ولهذا نشأ عن استناد الخوارج ونشأ عن استناد أولئك الملوك الإخلاد إلى الدنيا الذي هو أعظم الموجبات للخذلان، مصداق ذلك أنهم لما خرجوا على الزهد الذي هو أعظم أسباب النصر، فسار فيهم بسنة الله من اللطف بهم وتقديم وعظهم والإعذار إليهم وردهم إلى الله فلما لم يقبلوا قصدهم في ساعة، قال له بعض من كان يعتني بالنجوم: إنها ساعة نحس، إن سار فيها حذل، فقال: سيروا فيها؛ فإنه ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم منجمون، فلما لقي علي رضي الله عنه الخوارج لم يواقفوه حلب ناقة ولا أفلت منهم أحد ولا قتل من جماعته إنسان; وفهم الإيجاب في قوله تعالى: إن يكن منكم عشرون الآية. وأن الخبر فيه بمعنى الأمر من قوله: