الآن خفف الله أي: الملك الذي له الغنى المطلق وجميع صفات الكمال عنكم أي: [ ص: 324 ] رحمة لكم ورفقا بكم وعلم أي: قبل التخفيف وعده أن فيكم ضعفا أي: في العدد والعدد، ولكنه أوجب عليكم ذلك ابتلاء، فبعد التخفيف علم ضعفهم واقعا وقبله علم أنه سيقع، وتصديره هذه الجملة ب: الآن يشير إلى أن النسخ كان قبل أن تمضي مدة يمكن فيها غزو، وفائدة الأمر المعقب بالنسخ حيازة الأجر بقبوله والعزم على امتثاله، وقيل: ما كان النسخ إلا بعد مدة بعد أن سألوا في التخفيف; وروى في التفسير عن البخاري رضي الله عنهما قال: لما نزلت: ابن عباس إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: الآن خفف الله عنكم - الآية. فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
والمعنى أنه كان كتب مقدارا من الصبر لكل مؤمن، فلما خفف أزال ذلك بالنسبة إلى المجموع، وهذا لا يمنع استمرار البعض على ما كان كما فعل سبحانه بالصحابة رضوان الله عليهم في غير موضع منها غزوة مؤتة، فقد كانوا فيها ثلاثة آلاف، وكان من لقوا من جموع هرقل مائتي ألف: مائة من الروم ومائة من العرب المستنصرة، فصبروا لهم ونصروا عليهم كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مخبرا عنهم في هذه الغزوة: "ثم أخذ الراية عن غير إمرة سيف من سيوف الله ففتح الله عليه" خالد بن الوليد ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ارتد عامة الناس [ ص: 325 ] حتى لم يثبت على الإسلام عشر العشر فصبر الصحابة رضوان الله عليهم لهم ونصروا عليهم، بل الذي صبر في الحقيقة رضي الله عنه وحده، ثم أفاض الله من صبره ونوره على جميع الصحابة رضي الله عنهم فصبروا، ثم جهز الجيش وأميرهم الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم سيف الله، فأخمد الله به نار الشرك وقطع بصبره وحسن نيته جاذرة الكفر فلم تمض سنة وفي بلاد العرب مشرك. أبو بكر
فلما جمع الله العرب بهذا الدين على قلب رجل واحد قصدوا الأعاجم من الفرس والروم والقبط، فقاتلوا أهل فارس في عدة وقائع منها القادسية، وكان الصحابة رضي الله عنهم فيها دون أربعين ألفا، وكان المجوس أكثر من أربعمائة ألف، وقاتلوا الروم كذلك فكانوا في اليرموك دون أربعين ألفا وكان الروم نحو أربعمائة ألف - إلى غير ذلك من الوقائع وقد صبروا في أكثرها ونصروا، ثم كانت لهم العاقبة فطردوا الشرك وأهله، وأظهر الله لهم دينه كما وعد به سبحانه، وما اجتمع أهل الإسلام وأهل الضلال قط في معرك إلا كانت قتلى الكفار أضعاف قتلى المسلمين غير أن الله تعالى جده وتبارك اسمه وتمت كلمته ألطف بالعرب علما منه بأنهم خلاصة الناس بما طبعهم سبحانه عليه من فأسلم كل من اشتملت عليه جزيرتهم بعد وقائع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وزمان الردة، ولم تبلغ قتلاهم فيما أظن عشرة آلاف إنسان، ثم لما [ ص: 326 ] جاهدوا الخصال الحميدة والأخلاق السديدة الأعاجم من فارس والروم وغيرهم كانت قتلى الكفار تبلغ في المعركة الواحدة مائة ألف ومائتي ألف - كما هو مشهور في كتب الفتوح للمدائني وسيف وابن عبد الحكم والبلاذري وغيرهم، وقد جمع أشتات ذلك الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي وشيخه ابن حبيش، ولعله حذف في الثانية التقييد بالكفار ليشمل كل ما استحق القتال من البغاة وغيرهم، فقال تعالى مسببا عن التخفيف المذكور رادا الأمر من إيجاب مصابرة عشرة إلى الأمر بمصابرة الضعف، فإن زاد العدد على الضعف جاز الفرار، والصبر أحسن: فإن يكن منكم مائة صابرة أي: الصبر الذي تقدم التنبيه عليه يغلبوا مائتين أي: من غيركم بإذن الله وإن يكن منكم ألف أي: على النعت المذكور وهو الصبر يغلبوا ألفين ثم أرشد إلى أن المراد بالصبر هو كل المأمور به في آية: إذا لقيتم فئة فاثبتوا فقال: بإذن الله أي: بإرادة الذي له جميع الأمر ذلك وإباحته لكم وتمكينه، فإن لم يقع الإذن لم يقع الظفر، فالآية من الاحتباك: ذكر في الأول "صابرة" دلالة على حذفه ثانيا، وذكر ثانيا الإذن دليلا على حذفه أولا; ثم نبه على عموم الحكم بقوله: والله أي: المحيط بصفات الكمال مع الصابرين أي: بنصره ومعونته، ومن ثم قال ابن شبرمة : وأنا أرى كذلك. ومادة "إذن" - مهموزة وغير مهموزة وواوية ويائية بتقاليبها الأربعة: إذن ذان ذون ذين - [ ص: 327 ] ترجع إلى العلم الناشئ عن حاسة السمع المتعلق بجارحة الأذن، وتارة يثمر الإباحة وتارة المنع، فأذن بالشيء - كسمع: علم به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأذنوا بحرب أي: كونوا على علم من أن حربكم أبيح.
وأذن له بالشيء - كسمع أيضا: أباحه له، وآذنه الأمر وبه: أعلمه - وزنا ومعنى، فجعله مباحا له أو ممنوعا منه، وأذن فلانا تأذينا: عرك أذنه، وأذنه: رده عن الشرب فلم يسقه، كأن التفعيل فيه للإزالة، وآذن النعل وغيرها: جعل لها أذنا، وفعله بإذني: بعلمي وتمكيني، وأذن إليه وله - كفرح: استمع بأذنه، أي: أباح ذلك سمعه وقلبه، وأذن لرائحة الطعام: اشتهاه كأنه أباحه لنفسه، وآذنه إيذانا: أعجبه، مثل ذلك سواء، وآذنه أيضا: منعه، كأنه الهمزة للإزالة، والأذن: الجارحة المعروفة - بضمة وبضمتين - والمقبض والعروة من كل شيء وجبل؛ لأن كلا من ذلك سبب للتمكن من حمل ما هو فيه، والأذن: الرجل المستمع القابل كل ما يقال له كأنه لما قبله أباحه قلبه ومكنه منه، والأذان: النداء إلى الصلاة لأنه إعلام بإباحتها والمكنة منها، وتأذن: أقسم وأعلم، وتارة يتأثر عنه إباحة ومكنة من الشيء وتارة منع وحرمة، فيكون من الإزالة، وآذن العشب: بدأ يجف فبعضه رطب وبعضه يابس كأنه أمكن من جره وجمعه ببدو صلاحه، والآذن: الحاجب؛ لأنه للتمكين والمنع، والأذنة محركة: صغار الإبل والغنم كأنها تبيح كل أحد ما يريد منها، وطعام لا أذنة له: لا شهوة لريحه، فكأنه [ ص: 328 ] ممنوع منه لعدم اشتهائه، وتأذن الأمير في الناس: نادى فيهم بتهدد، فهو يرجع إلى المنع والزجر عن شيء تعزيرا، والذين - بالكسر والياء: العنب، وكذا الذان - بالألف منقلبة عن واو: العنب، كأنه لسهولة تناوله ولذة مطعمه أمكن من نفسه، والتذون - بالواو مشددة: الغنى والنعمة، كأنهما سبب للإمكان مما يشتهى، والذؤنون - مهموزا كزنبور: نبت من نبات الأرض; والمعنى أنه إنما أذن لكم في ذلك إذا فعلتم الشرط المذكور لأنكم فقهتم على الحرب وبنيتم أمركم فيه على دعائمها الخمس التي ملاكها والداخل في كل منها الصبر، فكان الله معكم، وهو مع كل صابر هذا الصبر المثبت في الدعائم الخمس في كل أوان، ومما يسأل عنه في الآية أنه ابتدئ في العشرات بثاني عقودها، وفي المئات والآلاف بأولها. سألت شيخنا الإمام الراسخ محقق زمانه شمس الدين محمد بن علي القاياتي قاضي الشافعية بالديار المصرية: ما حكمته؟ فقال: الأصل الابتداء بأول العقود، لكن لو قيل: إن يكن منكم عشرة صابرة يغلبوا مائة، لربما توهم أنه لا تجب مصابرة الواحد للعشرة إلا عند بلوغ المؤمنين هذا العقد، فعدل إلى الابتداء بثاني عقود هذه المرتبة لينتفي هذا المحذور، فلما انتفى وعلم أنه يجب مصابرة كل واحد لعشرة، ذكر باقي المراتب في الباقي [ ص: 329 ] على الأصل المعتاد، وأما تكرير المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين: قبل التخفيف وبعده فللدلالة - كما قال في الكشاف - على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت وإن كان قد يظن تفاوته، وكأنه لم يذك الآحاد بشارة بكثرة هذه الأمة واجتماعها وبدأ بالعشرات وختم بالألوف ليستوفي مراتب الأعداد الأصلية. والله أعلم.