ولما تم ذلك ، كان كأنه قيل : هل كان بعد ذلك اختبار؟ فقيل : نعم! قيل لها [أي : ] من قائل من جنود سليمان عليه السلام ، فلم تمكنها المخالفة لما هناك من الهيبة بالملك والنبوة والدين : ادخلي الصرح [وهو قصر] بناه قبل قدومها ، وجلس في صدره ، وجعل صحنه من الزجاج الأبيض الصافي ، وأجرى تحته الماء ، وجعل فيه دواب البحر ، وأصله كما قال في الجمع بين العباب والمحكم : بيت واحد يبنى منفردا [ ص: 171 ] ضخما طويلا في السماء ، قال : وقيل : كل بناء متسع مرتفع ، وقيل : هو القصر ، وقيل : كل بناء عال مرتفع ، والصرح : الأرض المملسة ، وصرحة الدار ساحتها ، ودل على مبادرتها لامتثال الأمر [وسرعة دخولها] بالفاء فقال : فلما رأته وعبر بما هو من الحسبان دلالة على أن عقلها وإن كان في غاية الرجاحة ناقص لعبادتها لغير الله فقال : حسبته أي : لشدة صفاء الزجاج واتصال الماء بسطحه الأسفل لجة أي : غمرة عظيمة من ماء ، فعزمت على خوضها إظهارا لتمام الاستسلام وكشفت عن ساقيها أي : لئلا تبتل ثيابها فتحتاج إلى تغييرها قبل الوصول إلى سليمان عليه السلام ، فرآها أحسن الناس ساقا وقدما غير أنها شعراء.
ولما حصل مراده ، استؤنف الإخبار عن أمره بعده فقيل : قال مبينا لعظم عقله وعلمه ، وحكمته وقدرته ، مؤكدا لأنه لشدة اشتباهه بجودة المادة وتناهي حسن الصنعة وإحكامها لا يكاد يصدق أنه حائل دون الماء : إنه أي : هذا الذي ظننته ماء صرح أي : قصر ممرد أي : مملس ، وأصل المرودة : الملاسة والاستواء [ ص: 172 ] من أي : كائن من قوارير أي : زجاج ليتصف بشفوفة الماء فيظن أنه لا حائل دونه ، فلما ، المؤيد بالحكمة ، المكمل بالوقار والسكينة ، المتمم بالخوارق ، بادرت إلى طاعته علما بأنه رسول الله ، فاستأنف تعالى الإخبار عن ذلك بقوله : رأت ما فضله الله به من العلم قالت مقبلة على من آتاه ، للاستمطار من فضله ، والاستجداء من عظيم وبله : رب أي : أيها المحسن إلي إني ظلمت نفسي أي : بما كنت فيه من العمى بعبادة غيرك عن عبادتك وأسلمت أي : ليظهر علي ثمرات الإسلام.
ولما ذكرت هذا الأساس الذي لا يصح بناء طاعة إلا عليه ، أتبعته الداعي الذي لا تتم ثمرات الأعمال المؤسسة عليه إلا بحبه ، والإذعان له ، والانقياد والاعتراف بالفضل ، وبهدايته إلى ما يصلح منها وما لا يصلح على الوجوه التي لا تقوم إلا بها من الكميات والكيفيات. فقالت : مع سليمان
ولما ذكرت ، ذكرت الاسم الأعظم الدال على ذات المستجمع للصفات الموجبة للإلهية [للذات] [ ص: 173 ] فقالت : صفة الربوبية الموجبة للعبادة بالإحسان لله أي : مقرة له بالألوهية والربوبية على سبيل الوحدانية ، ثم رجعت [إشارة] إلى العجز عن معرفة الذات حق المعرفة إلى الأفعال التي هي بحر المعرفة فقالت : رب العالمين فعمت بعد أن خصت إشارة إلى الترقي من حضيض دركات العمى إلى أوج درجات الهدى ، فلله درها ما أعلمها! وأطيب أعراقها وأكرمها! ويقال : إن سليمان عليه السلام تزوجها واصطنع الحمام - وهو أول من اتخذه - وأذهب شعرها بالنورة.