ولما أخبر برهبتهم دل عليها بقوله: لا يقاتلونكم أي كل من الفريقين اليهود والمنافقين أو أحدهما. ولما كان الشيء قد يطلق ويراد بعضه، حقق الأمر بقوله: جميعا أي قتالا يقصدونه مجاهرة و[هم] مجتمعون كلهم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن إلا في قرى محصنة أي ممنعة بحفظ الدروب وهي السكك الواسعة بالأبواب والخنادق ونحوها أو من وراء جدر أي محيط بهم سواء كان بقرية أو غيرها لشدة خوفهم، وقد أخرج بهذا ما حصل من بعضهم [ ص: 451 ] عن ضرورة كاليسير، ومن كان ينزل من أهل خيبر من الحصن يبارز ونحو ذلك، فإنه لم يكن عن اجتماع، أو يكون هذا خاصا ببني النضير في هذه الكرة.
ولما كان ربما ظن أن هذا عن عجز منهم لازم لهم دفعه بقوة إعلاما بأنه إنما هو من معجزات هذا الدين: بأسهم أي قوتهم وما فيهم من الصفات التي يتأثر عنها العذاب بينهم شديد أي إذا أداروا رأيا أو حارب بعضهم بعضا فجرأ المؤمنين عليهم بأن ما ينظرونه من شدتهم وشجاعتهم إذا حاربوا المشركين لا ينكر عند محاربة المؤمنين كرامة أكرم الله بها المؤمنين تتضمن علما من أعلام النبوة تقوية لإيمانهم وإعلاء لشأنهم.
ولما كانت علة الشدة الاجتماع، شرح حالتي الشدة والرهبة بقوله مخاطبا للنبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى شدة ما يظهرون من إلف [ ص: 452 ] بعضهم لبعض: تحسبهم أي اليهود والمنافقين يا أعلى الخلق ويا أيها الناظر من كان لذلك التعاطف الظاهر جميعا لما هم فيه من اجتماع [الدفاع] وعن ذلك نشأت الشدة وقلوبهم شتى أي مفترقة أشد افتراق، وعن ذلك نشأت الرهبة، وموجب هذا الشتات اختلاف الأهواء التي لا جامع لها من نظام العقل كالبهائم وإن اجتمعوا في عداوة أهل الحق كاجتماع البهائم في الهرب من الذئب، قال القشيري: اجتماع النفوس مع تنافر القلوب واختلافها أصل كل فساد [و]موجب كل تخاذل، ومقتض لتجاسر العدو، واتفاق القلوب والاشتراك في الهمة والتساوي في القصد يوجب كل ظفر وكل سعادة.
ولما كان السبب الأعظم في الافتراق ضعف العقل، قال معللا: ذلك أي الأمر الغريب من الافتراق بعد الاتفاق الذي يخيل الاجتماع بأنهم قوم أي مع شدتهم لا يعقلون فلا دين لهم [ ص: 453 ] يجمعهم لعلمهم أنهم على الباطل فهم أسرى الأهوية، والأهوية في غاية الاختلاف، فالعقل مدار الاجتماع كما كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما أن الهوى مدار الاختلاف.