ولما وصف - سبحانه وتعالى - نفسه المقدسة من فلق الجواهر بما اقتضى حتما اتصافه بصفات الكمال ، وقدمه لكونه من أظهر الذي هذا أسلوبه ، مع الإلف له بقربه ومعالجته ، أتبعه ما هو مثله في الدلالة على الإحياء لكنه في المعاني وهو سماوي ، شارحا لما أشار إليه أدلة القدرة على البعث الخليل - عليه السلام - في محاجة قومه من إبطال إلهية كل من النور والظلمة والكواكب التي هي منشأ ذلك ، فقال ترقية من العالم السفلي إلى العالم العلوي : فالق الإصباح أي : موجده ، وحقيقته : فالق ظلمة الليل عن الصباح ، لكنه لما كثر استعماله وأمن اللبس فيه أسند الفعل إلى الصبح ، كما يقال : انفجر الصبح ، وانفجر عنه الليل ، ويمكن أن يراد بالفلق الكشف ؛ لأنه يكشف من المفلوق ما كان خفيا ، فعبر عن المسبب الذي هو الإظهار بالسبب الذي هو الفلق ، وعبر عن الصباح بهذه الصيغة التي يقال المدخول في الصبح لتصلح لإرادة فلق السكون بالنور أو غيره عن التصرف بالحركة المرتبة على الدخول في الصبح ، فدلنا ذلك على وجاعل الإصباح حركة وسادل الليل وجعل الليل بما يكون من إظلامه سكنا يسكن الناس فيه وإليه ويستريحون فيه ، فالآية من الاحتباك : حذف من الأول الحركة ودل [ ص: 200 ] عليها بالسكن ، وحذف من الثاني السدل ودل عليه بالفلق ، وهذا الفلق من أعظم الدلائل على قدرته - سبحانه - وفيه دلالتان ؛ لأن الإصباح يشمل الفجر الكاذب والصادق ، والأول أقوى دلالة لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فالموضع - الذي تكون تلك الدائرة أفقا له - تطلع الشمس من مشرقه ، فيضيء في ذلك الموضع نصف كرة الأرض ، فيحصل الضوء في الربع الشرقي من بلدتك ، ويكون ذلك الضوء منتشرا مستطيرا في جميع الجو ، ويجب أن يقوى لحظة فلحظة ، فلو كان الأول من قرص الشمس لامتنع أن يكون خطا مستطيلا ، بل كان يجب أن يكون مستطيرا في الأفق منتشرا متزايدا لحظة فلحظة ، لكن ليس هو كذلك ، فإنه يبدو كالخيط الأبيض الصاعد حتى شبهته العرب بذنب السرحان ثم يحصل عقبه ظلمة خالصة ، ثم يكون الثاني الصادق المستطير فكان الأول أدل على القدرة ؛ لأنه بتخليق الله ابتداء تنبيها على أن الأنوار ليس لها وجود إلا بإبداعه ، والظلمات ليس لها ثبات إلا بتقديره .
ولما ذكر الضياء والظلمة - ذكر منشأهما وضم إليه قرينه فقال عاطفا على محل " الليل " لأن جاعلا ليس بمعنى المضيء فقط لتكون الإضافة حقيقية ، بل المراد استمراره في الأزمنة كلها : والشمس أي : التي ينشأ عنها كل منهما ، هذا عن غروبها وهذا عن شروقها [ ص: 201 ] والقمر أي : الذي هو آية الليل حسبانا أي : ذوي حسبان وعلمين عليه ؛ لأن الحساب يعلم بدورهما وسيرهما ، وبسبب ذلك نظم - سبحانه - مصالح العالم في الفصول الأربعة ، فيكون عن ذلك ما يحتاج إليه من نضج الثمار وحصول الغلات ، وعبر عنهما بالمصدر المبني على هذه الصيغة البليغة إشارة إلى أن الحساب بهما أمر عظيم كبير النفع كثير الدخول ، مع ما له من الدنيا في أبواب الدين فهو جل نفعهما الذي وقع التكليف به ، فكأنه لما كان الأمر كذلك - كان حقيقتهما التي يعبر عنهما بها ، وأما غير ذلك من منافعهما فلا مدخل للعباد فيه .
ولما كان هذا أمرا باهرا ووصفا قاهرا - أشار إليه بأداة البعد فقال : ذلك أي : التقدير العظيم الذي تقدم من الفلق وما بعده تقدير العزيز أي : الذي لا يغالب فهو الذي قهرهما على ما سيرهما فيه ، وغلب العباد على ما دبر من أمرهم بهما ، فلو أراد أحد أن يجعل ما جعله من النوم يقظة واليقظة نوما ، أو يجعل محل السكن للحركة أو بالعكس أو غير ذلك مما أشارت إليه الآية لأعياه ذلك العليم أي : الذي جعل ذلك بعلمه على منهاج لا يتغير وميزان قويم لا يزيغ .