ولما كان المشركون على أصناف : منهم عدة أصنام ، شركوا في العبودية لا في الخلق ، ومنهم آزر الذي حاجه إبراهيم - عليه السلام - ومنهم عبدة الكواكب وهم فريقان : منهم من قال : هي واجبة الوجود ، ومنهم من قال : ممكنة ، خلقها الله وفوض إليها تدبير هذا العالم الأسفل ، وهم الذين حاجهم الخليل - عليه السلام - بالأفول ، ومنهم من قال : لهذا العالم كله إلهان : فاعل خير ، وفاعل شر ، وقالوا : إن الله وإبليس أخوان ، فالله خالق الناس والدواب والأنعام ، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور ، ويلقبون الزنادقة وهم المجوس ؛ لأن الكتاب الذي زعم زردشت أنه نزل من عند الله سمي بالزند ، فالمنسوب إليه زندي ، ثم عرب فقيل : زنديق ، وكان هذا كله في قوله [ ص: 215 ] فالق الإصباح شرحا لآية إن الله فالق الحب والنوى دلالة على تمام القدرة الدالة على الوحدانية للدلالة على البعث - حسن كل الحسن العود إلى تقبيح حال المشركين بالتعجيب منهم في جملة حالية من الضمير في فالق أو غيره مما تقدم ، فقال تعالى شارحا أمر هذا الصنف ؛ لأن أمر غيرهم تقدم; وقال - رضي الله عنهما - : إن هذه الآية نزلت في الزنادقة : ابن عباس وجعلوا أي : هو سبحانه فعل هذا الذي لا يدع لبسا في تمام علمه وقدرته وكمال حكمته ووحدانيته والحال أن الذي فعل ذلك لأجلهم قد ( جعلوا ) وعبر بالاسم الأعظم وقدمه استعظاما لأن يعدل به شيئا لله أي : الذي له جميع الأمر .
ولما كان الشرك في غاية الفظاعة والشناعة ، قدمه فقال : شركاء يعني : وما كان ينبغي أن يكون له شريك مطلقا ؛ لأن الصفة إذا ذكرت مجردة غير مجراة على شيء كان ما يتعلق بها من النفي عاما في كل ما يجوز أن يكون له الصفة ، وحكم الإنكار حكم النفي . ولما اهتز السامع من هذا التقديم لزيادة المعنى من غير زيادة اللفظ ، تشوف إلى معرفة النوع الذي كان منه الشركاء فبينهم بقوله : الجن أي : الذين هم أجرأ [ ص: 216 ] الموجودات عليهم وأعداهم لهم ، فأطاعوهم كما يطاع الإله فكان عبادة لهم وتشريكا ، وقد رأيت ما للبيان بعد الانتهاء مما يحسن للناظرين وخلقهم أي : والحال أنهم قد علموا أن الله خلقهم أي : قدرهم بعلم وتدبير ، فلذلك كان خلقه لهم محكما وخرقوا أي : العابدون له بنين أي : كعزير والمسيح وبنات أي : من الملائكة ، فجمعوا لذلك جهالات هي غاية في الضلالات : وصف الملائكة بالأنوثة والاجتراء على مقام الربوبية بالحاجة ، وتخصيصه بعد ذلك بما لا يرضونه لأنفسهم بوجه; ومادة ( خرق ) تدور على النفوذ والاتساع والإطلاق والتقدير بغير علم ولا معرفة ليحدث عنه الفساد ؛ ولذلك قيل لمن لا يحسن العمل : خرق; وللمرأة : خرقاء ، يعني أنهم كذبوا واختلفوا واتسعوا في هذا القول الكذب ، وأبعدوا به في هذه المجاوزة عن حقيقته ، اتساع من سار في خرق أي : برية واسعة بهماء وسوفة جوفاء متباعدة الأرجاء إلى حيث لم يسبقه إليه بشر ، فضل عن الجادة ضلالا لا ترجى معه هدايته إلا على بعد شديد ، فصار جديرا بالهلاك ، وإلى ذلك يرجع معنى ما قرئ في الشاذ : وحرفوا - بالمهملة والفاء .
ولما لم يكن لقولهم أصلا حقيقة ولا شبهة ، [وكان الخرق التقدير [ ص: 217 ] بغير علم] ، دل على ذلك [مصرحا بما أفهمه محققا له] تنبيها على الدليل القطعي في اجتياح قولهم من أصله ، وذلك أنه قول لا حجة له ، ومسائل أصول الدين لا يصار إلى شيء منها إلا بقاطع ، وذلك بنكرة في سياق النفي فقال : بغير علم ثم نزه نفسه المقدسة تنبيها على ما يجب قوله على كل من سمع ذلك ، فقال : سبحانه أي : أسبحه - سبحانا - يليق بجلاله أن يضاف إليه. ولما كان معنى التسبيح الإبعاد عن النقص ، وكان المقام يقتضي كونه في العلو - صرح به فقال : وتعالى أي : تباعد أمر علوه إلى حد لا حد له ولا انتهاء عما يصفون