ولما تم ذلك فعلم أن إقدامهم على الأحكام الدينية بغير حجة أصلا - اقتضى الحال أن يقال : [قد] بطل بالعقل والنقل جميع ما قالوه في التحريم على وجه أبطل شركهم ، فهل بقي لهم مقال؟ فأخبر - سبحانه - بشبهة يقولونها اعتذارا عن جهلهم على وجه [هو وحده] كاف في الدلالة على حقية ما يقوله من الرسالة ، فوقع طبق ما قال عن أهل الضلال ، فقال مخبرا بما سيقولونه قبل وقوعه دلالة على صدق رسله وكذب المشركين فيما يخالفونهم فيه : سيقول أي : في المستقبل ، وأظهر موضع الإضمار تنصيصا عليهم وتبكيتا لهم فقال : الذين أشركوا [ ص: 311 ] تكذيبا منهم لو شاء الله أي : الذي له جميع الكمال عدم إشراكنا وتحريمنا ما أشركنا أي : بصنم ولا غيره ولا آباؤنا أي : ما وقع من إشراك ولا حرمنا من شيء أي : ما تقدم من البحائر والسوائب والزروع وغيرها أي : ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل ففعلنا طوع مشيئته ، وهو لا يشاء إلا الحق والحكمة لأنه قادر ، فلو لم يكن حقا يرضاه لمنعنا منه ، وهو لم يمنعنا منه فهو حق .
ولما كان هذا عنادا منهم ظاهرا بعد وضوح الأمر بما أقام على صدق رسله من البينات - كان كأنه قيل - تعجبا منهم - : هل فعل أحد غيرهم مثل فعلهم هذا أو قال مثل ما قالوا؟ فقيل : نعم كذلك أي : مثل ذلك التكذيب البعيد عن الصواب كذب الذين ولما لم يكن التكذيب عاما أدخل الجار فقال : من قبلهم من الأمم الخالية بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثا ، فكانت دعوى الأنبياء باطلة ، وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تام وملكه عام ، فهو لا يسأل عما يفعل ، وتمادى بهم غرور التكذيب حتى ذاقوا بأسنا أي : عذابنا لما لنا من العظمة ، فإن من له الأمر كله لا يسأل عما يفعل ، فلم ينفعهم عنادهم عند ذوق البأس ، بل انحلت عزائم همهم فخضعوا لنا وآمنوا برسلنا ، [ ص: 312 ] فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ، فالآية من الاحتباك : أثبت أولا الإشراك دليلا على حذفه ثانيا ، وثانيا التكذيب دليلا على حذفه أولا ، وسيأتي توجيه أنه لا بد من تضليل إحدى الطائفتين المتعاندتين وإن كان الكل بمشيئة الله ؛ لأنه لا مانع من إتيان الأمر على خلاف الإرادة .
ولما كان ما قالوه شبهة بعيدة عن العلم ، أعلى درجاتها أن يكون من أنواع الخطابة فتفيد الظن في أعظم مسائل علم الأصول الذي لا يحل الاعتماد فيه إلا على القواطع - أمره أن يقول لهم ما ينبههم على ذلك ، فقال : قل أي : لهؤلاء الذين تلقوا ما يلقيه الشيطان إليهم - كما أشير إليه في سورة الحج - تهكما بهم في بعدهم عن العلم وجدالهم بعد نهوض الحجج هل عندكم أيها الجهلة ، وأغرق في السؤال فقال : من علم أي : يصح الاحتجاج به في مثل هذا المقام الضنك فتخرجوه لنا أي : لي ولأتباعي وإن كان مما يجب أن يكون مكنونا مضنونا به على غير أهله مخزونا ، فهو تهكم بهم .
ولما كان جوابهم عن هذا : السكوت ؛ لأنه لا علم عندهم - قال دالا على ذلك : إن أي : ما تتبعون أي : في قولكم هذا وغالب أموركم إلا الظن أي : في أصول دينكم وهي لا يحل فيها قول إلا بقاطع وإن أي : وما أنتم إلا تخرصون أي : تقولون تارة [ ص: 313 ] بالحزر والتخمين وتارة بالكذب المحض اليقين .