ولما صدق الحق ، وانكسر جند الباطل واندق ببطلان [ ص: 314 ] جميع شبههم ، ونطقت الدلائل وأفحم المجادل ، فبان أنه لا شاهد لهم بحق لأنه لا حق لهم - كان كأنه قيل : قل لهم : ها أنا قد شهد لي بما قلته من لا ترد شهادته وزكاني الذي لا يقبل إلا تزكيته بهذا الكتاب الذي كان عجزكم عن الإتيان بشيء من مثله شاهدا بأنه قوله ، فهل لكم أنتم من شاهد يقبل! ولما لم يكن لهم شاهد غير متخرصيهم ، فإن المبطل يظهر باطله عند المحاققة سنة من الله مستمرة ، فيظهر للمشهود لهم بما يلوح من بهتهم أنهم ليسوا على شيء - أمره - سبحانه - أن يأمرهم بدعائهم ليظهر خزيهم وتشتهر فضيحتهم ، فقال : قل هلم أي : أحضروا ، وهي كلمة دعوة يستوي فيها المذكر والمؤنث والواحد والجمع عند الحجازيين شهداءكم
ولما كان كأنه قيل : أي شهداء؟ قال : الذين يشهدون أي : يوقعون الشهادة على أن الله أي : الذي لا حكم لغيره حرم هذا أي : الذي ذكرتموه من قبل ، وإضافة الشهداء إليهم ووصفهم بـ (الذين) دليل على أنهم معروفون موسومون بنصرة مذهبهم بالباطل ، ولو قال : (شهداء) - من غير إضافة لأفهم أن المطلوب من يشهد بالحق وليس كذلك ؛ لأنه أقيم الدليل العقلي على أنه لا حجة لهم وأن الحجة [ ص: 315 ] لله على خلاف ما ادعوه ، فبطل قطعا أن يكون أحد يشهد على ذلك بحق .
ولما كان كأنه قيل : فإنهم إذا أحضروا لا يقدرون - إن كان لهم عقل أو فيهم حياء - على النطق إذا سمعوا هذا الحق ، بني عليه قوله : فإن اجترؤوا بوقاحة شهدوا أي : كذبا وزورا بذلك الذي أبطلناه بالأدلة القطعية فلا تشهد معهم أي : فاتركهم ولا تسلم لهم ، فإنهم على ضلال وليست شهادتهم مستندة إلا إلى الهوى ولا تتبع أهواء وأظهر موضع الإضمار تعميما وتعليقا للحكم بالوصف دلالة على أن القائد إلى التكذيب وكل ردى إنما هو الهوى ، وأن من خالف ظاهر الآيات إنما هو صاحب هوى ، فقال : الذين كذبوا أي : أوقعوا التكذيب بآياتنا أي : على ما لها من الظهور بما لها من العظمة بإضافتها إلينا .
ولما وصفهم بالتكذيب - أتبعه الوصف بعدم الإيمان ، ودل بالنسق بالواو على العراقة في كل من الوصفين فقال : والذين لا يؤمنون بالآخرة أي : التي هي دار الجزاء ، فإنهم لو جوزوها ما اجترؤوا على الفجور وهم بربهم أي : الذين لا نعمة عليهم ولا خير عندهم إلا وهو منه وحده يعدلون أي : يجعلون غيره عديلا له ، وسيعلمون حين يقولون لشركائهم وهم في جهنم يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين