وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا . ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا . قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
قوله تعالى: وإذ قالت طائفة منهم يعني من المنافقين . وفي القائلين لهذا منهم قولان . أحدهما: عبد الله بن أبي وأصحابه، قاله والثاني: السدي . بنو سالم من المنافقين، قاله مقاتل .
قوله تعالى: يا أهل يثرب قال أبو عبيدة: يثرب: اسم أرض، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم في ناحية منها .
[ ص: 360 ] قوله تعالى: لا مقام لكم وقرأ حفص عن " عاصم: لا مقام " بضم الميم . قال من ضم الميم، فالمعنى: لا إقامة لكم; ومن فتحها، فالمعنى: لا مكان لكم تقيمون فيه . وهؤلاء كانوا يثبطون المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم . الزجاج:
قوله تعالى: فارجعوا أي: إلى المدينة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالمسلمين حتى عسكروا بـ " سلع " ، وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم، فقال المنافقون للناس: ليس لكم هاهنا مقام، لكثرة العدو، وهذا قول الجمهور . وحكى قولين [آخرين] الماوردي
أحدهما: لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين مشركي العرب، قاله الحسن .
والثاني: لا مقام لكم على القتال، فارجعوا إلى طلب الأمان، قاله الكلبي .
قوله تعالى: ويستأذن فريق منهم النبي فيه قولان .
أحدهما: أنهم بنو حارثة، قاله وقال ابن عباس . مجاهد: بنو حارثة بن الحارث بن الخزرج . وقال إنما استأذنه رجلان من السدي: بني حارثة .
والثاني: بنو حارثة، وبنو سلمة بن جشم، قاله مقاتل .
قوله تعالى: إن بيوتنا عورة قال : أي: خالية، فقد [ ص: 361 ] أمكن من أراد دخولها، وأصل العورة: ما ذهب عنه الستر والحفظ، فكأن الرجال ستر وحفظ للبيوت، فإذا ذهبوا أعورت البيوت، تقول ابن قتيبة العرب: أعور منزلي: إذا ذهب ستره، أو سقط جداره، وأعور الفارس: إذا بان منه موضع خلل للضرب والطعن، يقول الله: وما هي بعورة لأن الله يحفظها، ولكن يريدون الفرار . وقال الحسن، قالوا: بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق . وقال ومجاهد: قالوا بيوتنا مما يلي العدو، ولا نأمن على أهلنا، فكذبهم الله وأعلم أن قصدهم الفرار . قتادة:
قوله تعالى: ولو دخلت عليهم من أقطارها يعني المدينة; والأقطار: النواحي والجوانب، واحدها: قطر، ثم سئلوا الفتنة وقرأ عليه السلام، علي بن أبي طالب والضحاك، والزهري، وأبو عمران، وأبو جعفر، وشيبة: " ثم سيلوا " برفع السين وكسر الياء من غير همز . وقرأ أبي بن كعب، ومجاهد، " ثم سوءلوا " برفع السين ومد الواو بهمزة مكسورة بعدها . وقرأ وأبو الجوزاء: الحسن، " ثم سولوا " برفع السين وسكون الواو من غير مد ولا همز . وقرأ وأبو الأشهب: الأعمش، وعاصم الجحدري: " ثم سيلوا " بكسر السين ساكنة الياء من غير همز ولا واو . ومعنى: سئلوا الفتنة ، أي: سئلوا فعلها; [والفتنة: الشرك، (لآتوها) ] قرأ ابن كثير، ونافع، " لأتوها " بالقصر، أي: لقصدوها، ولفعلوها . وقرأ وابن عامر: عاصم، ، وأبو عمرو وحمزة، " والكسائي: لآتوها " بالمد، أي: لأعطوها . قال في معنى الآية: لو أن الأحزاب دخلوا ابن عباس المدينة ثم أمروهم بالشرك لأشركوا .
قوله تعالى: وما تلبثوا بها إلا يسيرا فيه قولان .
أحدهما: وما احتبسوا عن الإجابة إلى الكفر إلا قليلا، قاله قتادة .
[ ص: 362 ] والثاني: وما تلبثوا بالمدينة بعد الإجابة إلا يسيرا حتى يعذبوا، قاله وحكى السدي، في الآية قولا عجيبا، وهو أن الفتنة هاهنا: الحرب، والمعنى: ولو دخلت أبو سليمان الدمشقي المدينة على أهلها من أقطارها، ثم سئل هؤلاء المنافقون الحرب لأتوها مبادرين، وما تلبثوا- يعني الجيوش الداخلة عليهم بها- إلا قليلا حتى يخرجوهم منها; وإنما منعهم من القتال معك ما قد تداخلهم من الشك في دينك; قال: وهذا المعنى حفظته من كتاب الواقدي .
قوله تعالى: ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل في وقت معاهدتهم ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم ناس غابوا عن وقعة بدر، فلما علموا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة قالوا: لئن شهدنا قتالا لنقاتلن، قاله قتادة .
[ ص: 363 ] والثاني: أنهم أهل العقبة، وهم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على طاعة الله ونصرة رسوله، قاله مقاتل .
والثالث : أنه لما نزل بالمسلمين يوم أحد ما نزل، عاهد الله معتب بن قشير وثعلبة بن حاطب: لا نولي دبرا قط، فلما كان يوم الأحزاب نافقا، قاله واختاره الواقدي، وهو أليق مما قبله . وإذا كان الكلام في حق المنافقين، فكيف يطلق القول على أهل العقبة كلهم! أبو سليمان الدمشقي،
قوله تعالى: وكان عهد الله مسؤولا أي: يسألون عنه في الآخرة .
ثم أخبر أن الفرار لا يزيد في آجالهم، فقال: قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون بعد الفرار في الدنيا إلا قليلا وهو باقي آجالكم .
ثم أخبر أن ما قدره عليهم لا يدفع، بقوله: من ذا الذي يعصمكم من الله أي: يجيركم ويمنعكم منه إن أراد بكم سوءا وهو الإهلاك والهزيمة والبلاء أو أراد بكم رحمة وهي النصر والعافية والسلامة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا أي: لا يجدون مواليا ولا ناصرا يمنعهم من مراد الله فيهم .