[ ص: 106 ] قوله تعالى: ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102) من آثر المعصية على الطاعة فإنما حمله على ذلك جهله وظنه أنها تنفعه عاجلا باستعجال لذتها، وإن كان عنده إيمان فهو يرجو التخلص من سوء عاقبتها بالتوبة في آخر عمره، وهذا جهل محض، فإنه يتعجل الإثم والخزي، ويفوته عز التقوى وثوابها ولذة الطاعة، وقد يتمكن من التوبة بعد ذلك، وقد يعاجله الموت بغتة، فهو كجائع أكل طعاما مسموما لدفع جوعه الحاضر، ورجا أن يتخلص من ضرره بشرب الدرياق بعده، وهذا لا يفعله إلا جاهل، وقد قال تعالى في حق الذين يؤثرون السحر: ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103) . والمراد: أنهم آثروا السحر على التقوى والإيمان، لما رجوا فيه من منافع الدنيا المعجلة، مع علمهم أنهم يفوتهم بذلك ثواب الآخرة، وهذا جهل منهم، فإنهم لو علموا لآثروا الإيمان والتقوى على ما عداهما، فكانوا يحرزون أجر الآخرة ويأمنون عقابها، ويتعجلون عز التقوى في الدنيا، وربما وصلوا إلى ما يأملونه في الدنيا أو إلى خير منه وأنفع، فإن أكثر ما يطلب بالسحر قضاء حوائج محرمة أومكروهة عند الله عز وجل . والمؤمن المتقي يعوضه الله في الدنيا خيرا مما يطلبه الساحر ويؤثره، مع تعجيله عز التقوى وشرفها، وثواب الآخرة وعلو درجاتها، فتبين بهذا أن إيثار المعصية على الطاعة إنما يحمل عليه الجهل، فلذلك كان كل من عصى [ ص: 107 ] الله جاهلا، وكل من أطاعه عالما، وكفى بخشية الله علما، وبالاغترار به جهلا . وأما التوبة من قريب فالجمهور على أن المراد بها التوبة قبل الموت . فالعمر كله قريب، والدنيا كلها قريب . فمن فقد تاب من قريب، ومن مات ولم يتب فقد بعد كل البعد . تاب قبل الموت
* * *
عن - رضي الله عنه -: جابر بن عبد الله رواه أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: "نعم " . هذا الحديث: خرجه مسلم من رواية مسلم عن أبي الزبير ، وزاد في آخره: قال: جابر وخرجه - أيضا - من رواية والله لا أزيد على ذلك شيئا . عن الأعمش ، أبي صالح وأبي سفيان عن قال: جابر النعمان بن قوقل: يا رسول الله، أرأيت إذا صليت المكتوبة، وحرمت الحرام، وأحللت الحلال ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعم " . وقد فسر بعضهم تحليل الحلال باعتقاد حله، وتحريم الحرام باعتقاد حرمته مع اجتنابه، ويحتمل أن يراد بتحليل الحلال إتيانه، ويكون الحلال ههنا عبارة عما ليس بحرام، فيدخل فيه الواجب والمستحب والمباح، ويكون المعنى أنه يفعل ما ليس بمحرم عليه، ولا يتعدى ما أبيح له إلى غيره، ويجتنب المحرمات . وقد روي عن طائفة من السلف، منهم قال ابن مسعود في قوله عز وجل: وابن عباس الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به [ ص: 108 ] قالوا: يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه . والمراد بالتحليل والتحريم فعل الحلال واجتناب الحرام كما ذكر في هذا الحديث . وقد قال الله في حق الكفار الذين كانوا يغيرون تحريم الشهور الحرم: إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله والمراد: أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عاما، فيحلونه بذلك، ويمتنعون من القتال فيه عاما، فيحرمونه بذلك . وقال الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهدا في الدنيا وتقشفا، وبعضهم حرم ذلك عن نفسه، إما بيمين حلف بها، أو بتحريمه على نفسه، وذلك كله لا يوجب تحريمه في نفس الأمر، وبعضهم امتنع منه من غير يمين ولا تحريم، فسمى الجميع تحريما، حيث قصد الامتناع منه إضرارا بالنفس، وكفا لها عن شهواتها . ويقال في الأمثال: فلان لا يحلل ولا يحرم، إذا كان لا يمتنع من فعل حرام، ولا يقف عند ما أبيح له . وإن كان يعتقد تحريم الحرام، فيجعلون من فعل الحرام ولم يتحاش منه محللا له، وإن كان لا يعتقد حله . وبكل حال، فهذا الحديث يدل على أن دخل الجنة . من قام بالواجبات، وانتهى عن المحرمات،
وقد تواترت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى، أو ما هو قريب منه .