وعن : أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو وتخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قدم رسول الله اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فنزلت هذه الآية . أبي سعيد الخدري
فهذه الخصال، وهو أن يظهر الإنسان في الظاهر قولا أو فعلا، وهو في الصورة التي ظهر عليها حسن، ومقصوده بذلك التوصل إلى غرض فاسد، فيحمده على ما أظهر من ذلك الحسن، ويتوصل هو به إلى غرضه الفاسد الذي هو أبطنه، ويفرح بحمده على ذلك الذي أظهر أنه حسن وفي الباطن شيء، وعلى توصله في الباطن إلى غرضه السيئ، فتتم له الفائدة وتنفذ له الحيلة بهذا الخداع!! . خصال اليهود والمنافقين،
ومن كانت هذه صفته فهو داخل في هذه الآية ولا بد، فهو متوعد بالعذاب الأليم، ومثال ذلك: أن يريد الإنسان ذم رجل وتنقصه وإظهار عيبه لينفر الناس عنه إما محبة لإيذائه أو لعداوته، أو مخافة من مزاحمته على مال أو رئاسة أو غير ذلك من الأسباب المذمومة، فلا يتوصل إلى ذلك إلا بإظهار الطعن فيه بسبب ديني، مثل: أن يكون قد رد قولا ضعيفا من أقوال عالم مشهور فيشيع بين من يعظم ذلك العالم، أن فلانا يبغض هذا العالم ويذمه ويطعن عليه فيغر بذلك كل من يعظمه ويوهمهم أن بغض الراد وأذاه من أعمال العرب، لأنه ذب عن ذلك العالم، ورفع الأذى عنه، وذلك قربة إلى [ ص: 274 ] الله تعالى وطاعته فيجمع هذا المظهر للنصح بين أمرين قبيحين محرمين:
أحدهما: أن يحمل رد هذا العالم القول الآخر على البغض والطعن والهوى، وقد يكون إنما أراد به النصح للمؤمنين، وإظهار ما لا يحل له كتمانه من العلم .
والثاني: أن يظهر الطعن عليه ليتوصل بذلك إلى هواه وغرضه الفاسد في قالب النصح والذب عن علماء الشرع، وبمثل هذه المكيدة كان ظلم بني مروان وأتباعهم يستميلون الناس إليهم وينفرون قلوبهم عن علي بن أبي طالب والحسن وذريتهم - رضي الله عنه أجمعين . والحسين
وأنه لما قتل - رضي الله عنه - لم تر الأمة أحق من عثمان - رضي الله عنه - فبايعوه فتوصل من توصل إلى التنفير عنه، بأن أظهر تعظيم قتل علي وقبحه، وهو في نفس الأمر كذلك، ضم إلى ذلك أن المؤلب على قتله والساعي فيه عثمان - رضي الله عنه -، وهذا كان كذبا وبهتا . علي
وكان - رضي الله عنه - يحلف ويغلظ الحلف على نفي ذلك، وهو الصادق البار في يمينه - رضي الله عنه -، وبادروا إلى قتاله ديانة وتقربا ثم إلى قتال أولاده رضوان الله عليهم، واجتهد أولئك في إظهار ذلك وإشاعته على المنابر في أيام الجمع وغيرها من المجامع العظيمة، حتى استقر في قلوب أتباعهم أن الأمر على ما قالوه، وأن علي بني مروان أحق بالأمر من علي وولده لقربهم من ، وأخذهم بثأره، فتوصلوا بذلك إلى تأليف قلوب الناس عليهم، وقتالهم لعلي وولده من بعده، ويثبت بذلك لهم الملك، واستوثق لهم الأمر . عثمان
وكان بعضهم يقول في الخلوة لمن يثق إليه كلاما ما معناه: "لم يكن أحد [ ص: 275 ] من الصحابة أكفأ عن من عثمان " فيقال له: لم يسبونه إذا; فيقول: "إن الملك لا يقوم إلا بذلك " . علي
ومراده أنه لولا تنفير قلوب الناس عن علي وولده ونسبهم إلى ظلم لما مالت قلوب الناس إليهم، لما علموه من صفاتهم الجميلة وخصائصهم الجليلة، فكانوا يسرعون إلى متابعتهم ومبايعتهم فيزول بذلك ملك أمية . وينصرف الناس عن طاعتهم . عثمان
* * *
ومن هذا الباب - أيضا - أن يحب ذو الشرف والولاية أن يحمد على أفعاله ويثنى عليه بها، ويطلب من الناس ذلك، ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه، وربما كان ذلك الفعل إلى الذم أقرب منه إلى المدح، وربما أظهر أمرا حسنا في الظاهر، وأحب المدح عليه وقصد به في الباطن شرا، وفرح بتمويه ذلك وترويجه على الخلق . وهذا يدخل في قوله تعالى: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب الآية . فإن هذه الآية إنما نزلت فيمن هذه صفاته، وهذا الوصف - أعني: طلب المدح من الخلق ومحبته والعقوبة على تركه - لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له، ومن هنا كان أئمة الهدى ينهون عن حمدهم على أعمالهم وما يصدر منهم من الإحسان إلى الخلق، ويأمرون بإضافة الحمد على ذلك لله وحده لاشريك له، فإن النعم كلها منه . [ ص: 276 ] وكان - رحمه الله - شديد العناية بذلك، وكتب مرة إلى أهل الموسم كتابا يقرأ عليهم، وفيه الأمر بالإحسان إليهم، وإزالة المظالم التي كانت عليهم، وفي الكتاب: "ولا تحمدوا على ذلك كله إلا الله، فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري " . عمر بن عبد العزيز
وحكايته مع المرأة التي طلبت منه أن يفرض لبناتها اليتامى مشهورة، فإنها كانت لها أربع بنات، ففرض لثنتين منهن، وهي تحمد الله، ثم فرض للثالثة فشكرته فقال: إنما كنا نفرض لهن حيث كنت تولين الحمد أهله، فمري هذه الثلاث يواسين الرابعة . أو كما قال –رضي الله عنه - .
أراد أن يعرف أن ذا الولاية إنما هو منتصب لتنفيذ أمر الله، وآمر العباد بطاعته تعالى، وناه لهم عن محارم الله، ناصح لعباد الله بدعائهم إلى الله . فهو يقصد أن يكون الدين كله لله، وأن تكون العزة لله، وهو مع ذلك خائف من التقصير في حقوق الله تعالى - أيضا - . فالمحبون لله غاية مقاصدهم من الخلق أن يحبوا الله ويطيعوه . ويفردوه بالعبودية والإلهية، فكيف من يزاحمه في شيء من ذلك; فهو لا يريد من الخلق جزاء ولا شكورا، وإنما يرجو ثواب عمله من الله كما قال الله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد، [ ص: 277 ] فقولوا: عبد الله ورسوله " . "لا تطروني كما أطرت النصارى
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينكر على من لا يتأدب معه في الخطاب بهذا الأدب، كما قال: محمد بل قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد" . " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء
وقال: لمن قال: ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده " .
فمن هنا كان خلفاء الرسل وأتباعهم من أمراء العدل وأتباعهم وقضاتهم لا يدعون إلى تعظيم نفوسهم ألبتة، بل إلى تعظيم الله وحده، وإفراده بالعبودية والإلهية، ومنهم من كان لا يريد الولاية إلا للاستعانة بها على الدعوة إلى الله وحده .
وكان بعض الصالحين يتولى القضاء ويقول: ألا أتولاه لأستعين به على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولهذا كانت الرسل وأتباعهم يصبرون على الأذى في الدعوة إلى الله . ويتحملون في تنفيذ أوامر الله من الخلق غاية المشقة وهم صابرون، بل راضون بذلك، فإن المحب ربما يتلذذ بما يصيبه من الأذى في رضى محبوبه . كما كان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - يقول لأبيه في خلافته إذا حرص على تنفيذ الحق وإقامة العدل: يا أبت، لوددت أني غلت [ ص: 278 ] بي وبك القدور في الله عز وجل .
وقال بعض الصالحين: وددت أن جسمي قرض بالمقاريض وأن هذا الخلق كلهم أطاعوا الله عز وجل، فعرض قوله على بعض العارفين فقال: إن كان أراد بذلك النصيحة للخلق وإلا فلا أدري، ثم غشي عليه .
ومعنى هذا: أن صاحب هذا القول قد يكون لحظ نصح الخلق والشفقة عليهم من عذاب الله، وأحب أن يفديهم من عذاب الله بأذى نفسه، وقد يكون لحظ جلال الله وعظمته وما يستحقه من الإجلال والإكرام والطاعة والمحبة، فود أن الخلق قاموا بذلك، وإن حصل له في نفسه غاية الضرر . وهذا هو مشهد خواص المحبين العارفين بملاحظته فغشي على هذا الرجل العارف .
وقد وصف الله تعالى في كتابه أن المحبين له يجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم .
وفي ذلك يقول بعضهم:
أجد الملامة في هواك لذيذة . حبا لذكرك فليلمني اللوم