قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما وقد بين في سورة آل عمران خصال التقوى التي يغفر لأهلها ويدخلهم [ ص: 328 ] الجنة، فذكر منها الاستغفار، وعدم الإصرار، فلم يضمن تكفير السيئات ومغفرة الذنوب إلا لمن كان على هذه الصفة، والله أعلم .
لأنها تقع مكفرة باجتناب الكبائر، لقوله تعالى: الصغائر هل تجب التوبة منها كالكبائر أم لا؟ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما هذا مما اختلف الناس فيه .
فمنهم من أوجب التوبة منها . وهو قول أصحابنا وغيرهم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم . وقد أمر الله بالتوبة عقيب ذكر الصغائر والكبائر، فقال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن الآية إلى قوله: وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون وأمر بالتوبة من الصغائر بخصوصها في قوله: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون
ومن الناس من لم يوجب التوبة منها، وحكي عن طائفة من المعتزلة ومن المتأخرين من قال: يجب أحد أمرين، إما التوبة منها، أو الإتيان ببعض المكفرات للذنوب من الحسنات .
وحكى في "تفسيره" في ابن عطية قولين: تكفير الصغائر بامتثال الفرائض واجتناب الكبائر
[ ص: 329 ] أحدهما - وحكاه عن جماعة من الفقهاء وأهل الحديث - . أنه يقطع بتكفيرها بذلك قطعا، لظاهر الآية والحديث .
والثاني - وحكاه عن الأصوليين -: أنه لا يقطع بذلك، بل يحمل على غلبة الظن وقوة الرجاء، وهو في مشيئة الله عز وجل، إذ لو قطع بتكفيرها، لكانت الصغائر في حكم المباح الذي لا تبعة فيه، وذلك نقض لعرى الشريعة .
قلت: قد يقال: لا يقطع بتكفيرها لأن أحاديث التكفير المطلقة بالأعمال جاءت مقيدة بتحسين العمل، كما ورد ذلك في الوضوء والصلاة، وحينئذ فلا يتحقق وجود حسن العمل الذي يوجب التكفير، وعلى هذا الاختلاف الذي ذكره ينبني الاختلاف في وجوب التوبة من الصغائر . ابن عطية
وقد خرج من رواية ابن جرير أن قوما أتوا الحسن ، فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله لا يعمل بها، فقال لرجل منهم: أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم، قال: فهل أحصيته في نفسك؟ قال: اللهم لا، قال: فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم، ثم قال: ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم على الناس كتاب الله؟ قد علم ربنا أنه سيكون لنا سيئات، قال وتلا: عمر إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما . وبإسناده عن أنه قال: لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى، ثم لم نخرج له من كل أهل ومال، ثم سكت، ثم قال: والله لقد [ ص: 330 ] كلفنا ربنا أهون من ذلك، لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر، فما لنا ولها; ثم تلا: أنس بن مالك إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31 . وخرجه البزار في " مسنده " مرفوعا، والموقوف أصح . وقد وصف الله المحسنين باجتناب الكبائر، قال الله تعالى: ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة وفي تفسير اللمم قولان للسلف:
أحدهما: أنه مقدمات الفواحش كاللمس والقبلة . وعن هو ما دون الحدين: وعيد الآخرة بالنار، وحد الدنيا . ابن عباس:
والثاني: أنه الإلمام بشيء من الفواحش، والكبائر مرة واحدة، ثم يتوب منه .
وروي عن ابن عباس عنه مرفوعا بالشك في رفعه، قال: وأبي هريرة ، وروي "اللمة من الزنى، ثم يتوب، فلا يعود، واللمة من شرب الخمر، ثم يتوب فلا يعود، واللمة من السرقة ثم يتوب، فلا يعود" . ، ومن فسر الآية بهذا قال: لا بد أن يتوب منه، بخلاف من فسره بالمقدمات، فإنه لم يشترط توبة [ ص: 331 ] والظاهر: أن القولين صحيحان، وأن كلاهما مراد من الآية، وحينئذ فالمحسن: هو من لا يأتي بكبيرة إلا نادرا ثم يتوب منها، ومن إذا أتى بصغيرة كانت مغمورة في حسناته المكفرة لها، ولا بد أن لا يكون مصرا عليها، كما قال تعالى: ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون
وروي عن أنه قال: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار، وروي مرفوعا من وجوه ضعيفة . وإذا صارت الصغائر كبائر بالمداومة عليها، فلا بد للمحسنين من اجتناب المداومة على الصغائر حتى يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش . ابن عباس
وقال الله عز وجل: وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله
فهذه الآيات تضمنت وصف المؤمنين بقيامهم بما أوجب الله عليهم من الإيمان والتوكل، وإقام الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله والاستجابة لله في جميع طاعاته، ومع هذا، فهم مجتنبون كبائر الإثم والفواحش، فهذا هو تحقيق التقوى، ووصفهم في معاملتهم للخلق بالمغفرة عند الغضب، وندبهم إلى العفو والإصلاح . وأما قوله: والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون فليس منافيا للعفو، فإن الانتصار يكون بإظهار القدرة على الانتقام، ثم يقع العفو بعد ذلك، فيكون أتم وأكمل، قال في هذه [ ص: 332 ] الآية : كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا . وقال النخعي : كانوا يكرهون للمؤمن أن يذل نفسه، فيجترئ عليه الفساق، فالمؤمن إذا بغي عليه يظهر القدرة على الانتقام، ثم يعفو بعد ذلك، وقد جرى مثل هذا لكثير من السلف، منهم مجاهد وغيره . قتادة
فهذه الآيات تتضمن جميع ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصيته ، فإنها تضمنت أصول خصال التقوى بفعل الواجبات، والانتهاء عن كبائر المحرمات ومعاملة الخلق بالإحسان والعفو، ولازم هذا أنه إن وقع منهم شيء من الإثم من غير الكبائر والفواحش، يكون مغمورا بخصال التقوى المقتضية لتكفيرها ومحوها . لمعاذ
وأما الآيات التي في سورة "آل عمران "، فوصف فيها المتقين بالإحسان إلى الخلق، وبالاستغفار من الفواحش وظلم النفس، وعدم الإصرار على ذلك . وهذا هو الأكمل، وهو إحداث التوبة، والاستغفار عقيب كل ذنب من الذنوب صغيرا كان أو كبيرا، كما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصى بذلك ، وقد ذكرناه فيما سبق . معاذا
وإنما بسطنا القول في هذا، لأن حاجة الخلق إليه شديدة، وكل أحد يحتاج إلى معرفة هذا، ثم إلى العمل بمقتضاه، والله الموفق والمعين .