قوله تعالى: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة [ ص: 376 ] رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم
وقد اختلف العلماء في "ألحقوا الفرائض بأهلها": معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -:
فقالت طائفة: المراد بالفرائض الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى .
والمراد: أعطوا الفروض المقدرة لمن سماها الله لهم، فما بقي بعد هذه الفروض، فيستحقه أولى الرجال، والمراد بالأولى: الأقرب، كما يقال: هذا يلي هذا، أي: يقرب منه، فأقرب الرجال هو أقرب العصبات، يستحق الباقي بالتعصيب، وبهذا المعنى فسر الحديث جماعة من الأئمة، منهم: ، الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه ، نقله عنهما إسحاق بن منصور . وعلى هذا، فإذا اجتمع بنت وأخت وعم، أو ابن عم، أو ابن أخ . فينبغي أن يأخذ الباقي بعد نصف البنت العصبة، وهذا قول ، وكان يتمسك بهذا الحديث، ويقر بأن الناس كلهم على خلافه، وذهبت ابن عباس الظاهرية إلى قوله أيضا .
وقال إسحاق: إذا كان مع البنت والأخت عصبة، فالعصبة أولى، وإن لم يكن معهما أحد، فالأخت لها الباقي، وحكي عن ، أنه قال: البنت عصبة من لا عصبة له، ورد بعضهم هذا، وقال: لا يصح عن ابن مسعود . وكان ابن مسعود ابن الزبير يقولان بقول ومسروق ، ثم رجعا عنه . ابن عباس
وذهب جمهور العلماء إلى أن الأخت مع البنت عصبة لها ما فضل، [ ص: 377 ] منهم: ، عمر وعلي، ، وعائشة وزيد، ، وابن مسعود . وتابعهم سائر العلماء . وروى ومعاذ بن جبل ، أخبرنا عبد الرزاق : سألت ابن جريج ابن طاووس عن ابنة وأخت، فقال: كان أبي يذكر عن ، عن رجل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها شيئا، وكان ابن عباس لا يرضى بذلك الرجل، قال: وكان أبي يشك فيها، ولا يقول فيها شيئا، وقد كان يسأل عنها . والظاهر - والله أعلم -: أن مراد طاووس هو هذا الحديث، فإن طاووس لم يكن عنده نص صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ميراث الأخت مع البنت، إنما كان يتمسك بمثل عموم هذا الحديث . وما ذكره ابن عباس أن طاووس رواه عن رجل وأنه لا يرضاه، ابن عباس فابن عباس أكثر رواياته للحديث عن الصحابة، والصحابة كلهم عدول قد رضي الله عنهم، وأثنى عليهم، فلا عبرة بعد ذلك بعدم رضا . طاووس
وفي "صحيح " عن البخاري أبي قيس الأودي، عن هزيل بن شرحبيل . قال: ، فسأله عن ابنة وابنة ابن وأخت لأب وأم . فقال: للابنة النصف، وللأخت ما بقي وائت أبي موسى فسيتابعني، فأتى ابن مسعود ، فذكر ذلك له، فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين . لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي، فللأخت، قال: فأتينا ابن مسعود ، فأخبرناه بقول أبا موسى ، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم . ابن مسعود وفيه - أيضا - عن جاء رجل إلى ، عن الأعمش إبراهيم، عن ، قال: [ ص: 378 ] قضى فينا الأسود بن يزيد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: النصف للابنة، والنصف للأخت، ثم ترك معاذ بن جبل ذكر عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يذكره . الأعمش
وخرجه من وجه آخر عن أبو داود الأسود ، وزاد فيه: ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ حي .
واستدل لقوله بقول الله عز وجل: ابن عباس قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وكان يقول: أأنتم أعلم أم الله؟ يعني أن الله لم يجعل لها النصف إلا مع عدم الولد، وأنتم تجعلون لها النصف مع الولد وهو البنت .
والصواب: قول والجمهور، ولا دلالة في هذه الآية على خلاف ذلك، لأن المراد بقوله: عمر فلها نصف ما ترك بالفرض، وهذا مشروط بعدم الولد بالكلية، ولهذا قال بعده: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك يعني بالفرض، والأخت الواحدة إنما تأخذ النصف مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى، وكذلك الأختان فصاعدا إنما يستحقون الثلثين مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى، فإن كان هناك ولد، فإن كان ذكرا، فهو مقدم على الإخوة مطلقا ذكورهم وإناثهم، وإن لم يكن هناك ولد ذكر، بل أنثى، فالباقي بعد فرضها يستحقه الأخ مع أخته بالاتفاق، فإذا كانت الأخت لا يسقطها أخوها، فكيف يسقطها من هو أبعد منه من العصبات كالعم وابنه; وإذا لم يكن العصبة الأبعد مسقطا لها، فيتعين تقديمها عليه، لامتناع مشاركته لها . [ ص: 379 ] فمفهوم الآية: أن الولد يمنع أن يكون للأخت النصف بالفرض، وهذا حق، ليس مفهومها أن الأخت تسقط بالبنت، ولا تأخذ ما فضل من ميراثها، يدل عليه قوله تعالى: وهو يرثها إن لم يكن لها ولد وقد أجمعت الأمة على أن وإنما وجود الولد الأنثى يمنع أن يحوز الأخ ميراث أخته كله، فكما أن الولد إن كان ذكرا، منع الأخ من الميراث، وإن كان أنثى، لم يمنعه الفاضل عن ميراثها، وإن منعه حيازة الميراث، فكذلك الولد إن كان ذكرا منع الأخت الميراث بالكلية، وإن كان أنثى، منعت الأخت أن يفرض لها النصف، ولم تمنعها أن تأخذ ما فضل عن فرضها، والله أعلم . الولد الأنثى لا يمنع الأخ أن يرث من مال أخته ما فضل عن البنت أو البنات،
وأما قوله: فقد قيل: إن المراد به العصبة البعيد خاصة، كبني الإخوة والأعمام وبنيهم، دون العصبة القريب، بدليل أن الباقي بعد الفروض يشترك فيه الذكر والأنثى إذا كان العصبة قريبا، كالأولاد والإخوة بالاتفاق، فكذلك الأخت مع البنت بالنص الدال عليه . وأيضا فإنه يخص منه هذه الصور بالاتفاق، وكذلك يخص منه المعتقة مولاة النعمة بالاتفاق، فتخص صورة الأخت مع البنت بالنص . "فما أبقت الفرائض، فلأولى رجل ذكر" .
وقالت طائفة آخرون: المراد بقوله: ما يستحقه ذوو الفروض في الجملة، سواء أخذوه بفرض أو بتعصيب طرأ لهم، والمراد بقوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها": العصبة الذي ليس له فرض بحال . ويدل عليه أنه قد روي الحديث بلفظ آخر، وهو: "فما بقي، فلأولى رجل ذكر" فدخل في ذلك كل من كل من كان من أهل الفروض بوجه من الوجوه . "اقسموا المال بين أهل [ ص: 380 ] الفرائض على كتاب الله "،
وعلى هذا، فما تأخذه الأخت مع أخيها، أو ابن عمها إذا عصبها هو داخل في هذه القسمة، لأنها من أهل الفرائض في الجملة، فكذلك ما تأخذه الأخت مع البنت .
وقالت فرقة أخرى: المراد بأهل الفرائض في قوله: وقوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها"، جملة من سماه الله في كتابه من أهل المواريث من ذوي الفروض والعصبات كلهم، فإن كل ما يأخذه الورثة، فهو فرض فرضه الله لهم، سواء كان مقدرا أو غير مقدر، كما قال بعد ذكر ميراث الوالدين والأولاد: "اقسموا المال بين أهل الفرائض "،
فريضة من الله وفيهم ذو فرض وعصبة، وكما قال: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا وهذا يشمل العصبات وذوي الفروض، فكذلك قوله: يشمل قسمته بين ذوي الفروض والعصبات على ما في كتاب الله، فإن قسم على ذلك ثم فضل منه شيء، فيختص بالفاضل أقرب الذكور من الورثة . وكذلك إن لم يوجد في كتاب الله تصريح بقسمته بين من سماه الله من الورثة، فيكون حينئذ المال لأولى رجل ذكر منهم . "اقسموا الفرائض بين أهلها على كتاب الله " .