قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينـزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم
عن - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أبي هريرة "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " .
رواه البخاري . ومسلم
هذا الحديث بهذا اللفظ: خرجه وحده من رواية مسلم ، عن [ ص: 448 ] الزهري سعيد بن المسيب وأبي سلمة - كلاهما - عن ، وخرجاه من رواية أبي هريرة ، عن أبي الزناد الأعرج ، عن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أبي هريرة وخرجه "دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " من طريقين آخرين عن مسلم بمعناه . وفي رواية له ذكر سبب هذا الحديث من رواية أبي هريرة محمد بن زياد ، عن ، قال: أبي هريرة خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم"، ثم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء، فدعوه " .
وخرجه من وجه آخر مختصرا . وقال فيه: فنزل قوله تعالى: الدارقطني يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وقد روي من غير وجه أن هذه الآية نزلت لما سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحج، وقالوا: أفي كل عام؟
وفي "الصحيحين " عن قال: أنس لا تسألوا عن أشياء وفيهما - أيضا - عن خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رجل: من أبي؟ فقال: "فلان "، فنزلت هذه الآية: ، عن قتادة قال: أنس حذافة "، ثم أنشأ ، فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا عمر وبمحمد رسولا، نعوذ بالله من الفتن، وكان يذكر عند هذا الحديث هذه الآية قتادة يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى [ ص: 449 ] أحفوه في المسألة، فغضب فصعد المنبر، فقال: "لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته" فقام رجل - كان إذا لاحى الرجال دعي إلى غير أبيه - فقال: يا رسول الله من أبي; قال: " أبوك
وفي "صحيح " عن البخاري ، قال: ابن عباس يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء . كان قوم يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله هذه الآية:
وخرج في "تفسيره" من حديث ابن جرير الطبري ، قال أبي هريرة حذافة "، فقام فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا، عمر وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك، والله أعلم من آباؤنا، قال: فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء وروى - أيضا - من طريق خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان محمار وجهه، حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: أين أنا؟ فقال: "في النار" فقام إليه آخر، فقال: من أبي؟ قال: "أبوك عن العوفي في قوله: ابن عباس يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن في الناس، فقال: "يا قوم كتب عليكم الحج؟ "، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، أفي كل عام; فأغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا، فقال: [ ص: 450 ] "والذي نفسي بيده، لو قلت: نعم، لوجبت ولو وجبت ما استطعتم، وإذن لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإذا أمرتكم بشيء فافعلوا، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه " فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم نهاهم أن يسألوا مثل الذي سألت النصارى في المائدة، فأصبحوا بها كافرين، فنهى الله تعالى عن ذلك، وقال: لا تسألوا عن أشياء، إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه . فدلت هذه الأحاديث على النهي عن مثل سؤال السائل، هل هو في النار أو في الجنة، وهل أبوه من ينتسب إليه أو غيره، وعلى النهي عن السؤال عما لا يحتاج إليه مما يسوء السائل جوابه كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم . السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء،
وقريب من ذلك سؤال الآيات واقتراحها على وجه التعنت، كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب، وقد قال وغيره: إن الآية نزلت في ذلك . ويقرب من ذلك السؤال عما أخفاه الله عن عباده، ولم يطلعهم عليه . كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح . ودلت - أيضا - على نهي المسلمين عن عكرمة كالسؤال عن الحج: هل يجب كل عام أم لا؟ السؤال عن كثير من الحلال والحرام مما يخشى أن يكون السؤال سببا لنزول التشديد فيه،
وفي "الصحيح " عن سعد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن أعظم المسلمين [ ص: 451 ] في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته " .
ولما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اللعان كره المسائل وعابها حتى ابتلي السائل عنه قبل وقوعه بذلك في أهله وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال .
ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرخص في المسائل إلا للأعراب ونحوهم من الوفود القادمين عليه، يتألفهم بذلك، فأما المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينة الذين رسخ الإيمان في قلوبهم، فنهوا عن المسألة، كما في "صحيح " عن مسلم النواس بن سمعان، قال: أقمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - . وفيه أيضا عن ، قال: أنس نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله ونحن نسمع .
وفي "المسند" عن ، قال: أبي أمامة يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال: فكنا قد كرهنا كثيرا من مسألته، واتقينا ذلك حين أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال: فأتينا أعرابيا، فرشوناه بردا، ثم قلنا له: سل النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر حديثا . كان الله قد أنزل:
وفي "مسند أبي يعلى الموصلي " عن قال: إن كان لتأتي [ ص: 452 ] علي السنة أريد أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب . البراء بن عازب
وفي "مسند " عن البزار ، قال: ابن عباس ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة، كلها في القرآن: يسألونك عن الخمر والميسر يسألونك عن الشهر الحرام ويسألونك عن اليتامى وذكر الحديث .
وقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها، لكن للحمل بها عند وقوعها، كما قالوا له: إنا لاقو العدو غدا، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب; وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده، وعن طاعتهم وقتالهم، وسأله عن الفتن، وما يصنع فيها . فهذا الحديث، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: حذيفة " يدل على "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ولكن بعض الناس يزعم أن ذلك كان مختصا بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما يخشى حينئذ من تحريم ما لم يحرم، أو إيجاب ما يشق القيام به، وهذا قد أمن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - . ولكن ليس هذا وحده هو سبب كراهة المسائل، بل له سبب آخر، وهو الذي أشار إليه كراهة المسائل وذمها، في كلامه الذي ذكرنا بقوله: ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن، فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه . ومعنى هذا: أن جميع ما يحتاج إليه المسلمون في دينهم لا بد أن يبينه الله في كتابه العزيز، [ ص: 453 ] ويبلغ ذلك رسوله عنه، فلا حاجة بعد هذا لأحد في السؤال، فإن الله تعالى أعلم بمصالح عباده منهم، فما كان فيه هدايتهم ونفعهم فإن الله لا بد أن يبينه لهم ابتداء من غير سؤال، كما قال: ابن عباس يبين الله لكم أن تضلوا وحينئذ، فلا حاجة إلى السؤال عن شيء، ولا سيما قبل وقوعه والحاجة إليه، وإنما الحاجة المهمة إلى فهم ما أخبر الله به ورسوله، ثم اتباع ذلك والعمل به، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن المسائل، فيحيل على القرآن، كما عن الكلالة فقال: "يكفيك آية الصيف " . عمر سأله
وأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إلى أن في الاشتغال بامتثال أمره، واجتناب نهيه شغلا عن المسائل، فقال: فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يجتهد في فهم ذلك، والوقوف على معانيه، ثم يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من الأمور العلمية، وإن كان من الأمور العملية، بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر، واجتناب ما ينهى عنه، وتكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك، لا إلى غيره . وهكذا كان حال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة . فأما إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع، وقد لا تقع، فإن هذا مما يدخل في النهي ويثبط عن الجد في [ ص: 454 ] متابعة الأمر . وقد "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم " . عن استلام الحجر، فقال له: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله، فقال له الرجل: أرأيت إن غلبت عليه؟ أرأيت إن زوحمت؟ فقال له ابن عمر : اجعل "أرأيت" ابن عمر باليمن، رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله . سأل رجل
خرجه . الترمذي
ومراد : أن لا يكون لك هم إلا في الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا حاجة إلى فرض العجز عن ذلك أو تعسره قبل وقوعه، فإنه قد يفتر العزم عن التصميم على المتابعة، فإن التفقه في الدين، والسؤال عن العلم إنما يحمد إذا كان للعمل، لا للمراء والجدال . ابن عمر
وقد روي عن - رضي الله عنه -، أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان، فقال له علي : متى ذلك يا عمر قال: إذا تفقه لغير الدين، وتعلم لغير العمل، والتمست الدنيا بعمل الآخرة . علي؟
وعن أنه قال: كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير . ويهرم فيها الكبير، وتتخذ سنة، فإن غيرت يوما قيل: هذا منكر؟ قالوا: ومتى ذلك؟ قال: إذا قلت أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثر قراؤكم، وتفقه لغير الدين، والتمست الدنيا بعمل الآخرة . ابن مسعود
خرجهما في كتابه . عبد الرزاق
ولهذا المعنى كان كثير من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها، ولا يجيبون عن ذلك، قال : خرج عمرو بن مرة على [ ص: 455 ] الناس، فقال: أحرج عليكم أن تسألونا عن ما لم يكن، فإن لنا فيما كان شغلا . عمر
وعن ، قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت ابن عمر لعن السائل عما لم يكن . عمر
وكان إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا ؟ فإن قالوا: لا . قال: دعوه حتى يكون . زيد بن ثابت
وقال : سألت مسروق عن شيء، فقال: أكان بعد؟ فقلت: لا، فقال: أجمنا - يعني: أرحنا - حتى يكون فإذا كان اجتهدنا لك رأينا . أبي بن كعب
وقال : سئل الشعبي عن مسألة فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا، قال: فدعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناه لكم . عمار
وعن الصلت بن راشد، قال: سألت عن شيء، فانتهرني . وقال: أكان هذا؟ قلت: نعم، قال: آلله ؟ قلت: آلله . قال: إن أصحابنا أخبرونا عن طاووسا أنه قال: أيها الناس، لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فيذهب بكم هاهنا وهاهنا، فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد، أو قال وفق . معاذ بن جبل
وقد خرجه في كتاب: "المراسيل " مرفوعا من طريق [ ص: 456 ] أبو داود عن ابن عجلان عن طاووس ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: معاذ ومعنى إرساله أن "لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إن لم تفعلوا لم ينفك المسلمون منهم من إذا قال سدد أو وفق، وإنكم إن عجلتم، تشتت بكم السبل هاهنا وهاهنا" . لم يسمع من طاووسا . معاذ
وخرجه - أيضا - من رواية ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه مرسلا . وروى أبي سلمة الحجاج بن منهال حدثنا سمعت جرير بن حازم الزبير بن سعيد - رجلا من بني هاشم - قال . سمعت أشياخنا يحدثون: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال في أمتي من إذا سئل سدد وأرشد حتى يتساءلوا عن ما لم ينزل تبيينه، فإذا فعلوا ذلك، ذهب بهم هاهنا وهاهنا" .
وقد روي عن عن الصنابحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معاوية خرجه أنه نهى عن الأغلوطات، ، وفسرها الإمام أحمد ، قال: هي شداد المسائل . وقال الأوزاعي هي ما لا يحتاج إليه من كيف وكيف . عيسى بن يونس:
ويروى من حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثوبان "سيكون أقوام من أمتي يغلطون فقهاءهم بعضل المسائل، أولئك شرار أمتي " .
وقال شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يغمون بها عباد الله . [ ص: 457 ] وقال الحسن: : إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم، ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علما . الأوزاعي
وقال عن ابن وهب : أدركت هذه البلدة، وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي فيه الناس اليوم، يريد المسائل . مالك
وقال أيضا: سمعت وهو يعيب مالكا ثم قال: يتكلم كأنه جمل مغتلم يقول: هو كذا، هو كذا يهدر في كلامه . كثرة الكلام وكثرة الفتيا،
وقال: وسمعت يكره الجواب في كثرة المسائل، وقال: قال الله عز وجل: مالكا ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي فلم يأته في ذلك جواب . وكان يكره مالك أيضا . قال المجادلة عن السنن الهيثم بن جميل: قلت : يا لمالك أبا عبد الله ، الرجل يكون عالما بالسنن يجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة، فإن قبل منه، وإلا سكت .
وقال إسحاق بن عيسى: كان يقول: المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل . مالك
وقال : سمعت ابن وهب يقول: المراء في العلم يقسي القلوب ويورث الضغن . مالكا
وكان أبو شريح الإسكندراني يوما في مجلسه، فكثرت المسائل، فقال: قد درنت قلوبكم منذ اليوم، فقوموا إلى أبي حميد خالد بن حميد اصقلوا قلوبكم، وتعلموا هذه الرغائب، فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجر الصداقة، وأقلوا المسائل إلا ما نزل، فإنها تقسي القلوب، وتورث العداوة . [ ص: 458 ] وقال الميموني: سمعت - يسأل عن مسألة . فقال: وقعت هذه المسألة ؟ بليتم بها بعد . أبا عبد الله - يعني أحمد
وقد انقسم الناس في هذا الباب أقساما:
فمن أتباع أهل الحديث من سد باب المسائل حتى قل فقهه وعلمه بحدود ما أنزل الله على رسوله، وصار حامل فقه غير فقيه .
ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل قبل وقوعها، ما يقع في العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك، وكثرة الخصومات فيه، والجدال عليه حتى يتولد من ذلك افتراق القلوب، ويستقر فيها بسببه الأهواء والشحناء والعداوة والبغضاء، ويقترن ذلك كثيرا بنية المغالبة، وطلب العلو والمباهاة، وصرف وجوه الناس، وهذا مما ذمه العلماء الربانيون، ودلت السنة على قبحه وتحريمه . وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به، فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يفسره من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها وتفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزهد والرقائق، وغير ذلك، وهذا هو طريقة ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما أحدث من الرأي مما لا ينتفع به ولا يقع، وإنما يورث التجادل فيه كثرة الخصومات والجدال وكثرة القيل والقال . وكان [ ص: 459 ] الإمام أحمد كثيرا إذا سئل عن شيء من المسائل المولدات التي لا تقع يقول: دعونا من هذه المسائل المحدثة . الإمام أحمد
وما أحسن ما قاله يونس بن سليمان السقطي: نظرت في الأمر، فإذا هو الحديث والرأي، فوجدت في الحديث ذكر الرب عز وجل، وربوبيته وإجلاله وعظمته، وذكر العرش وصفة الجنة والنار، وذكر النبيين والمرسلين، والحلال والحرام، والحث على صلة الأرحام، وجماع الخير فيه، ونظرت في الرأي، فإذا فيه المكر والغدر، والحيل، وقطيعة الأرحام، وجماع الشر فيه .
وقال أحمد بن شبويه: من أراد علم القبر فعليه بالآثار، ومن أراد علم الخبز فعليه بالرأي .
ومن سلك طريقه لطلب العلم على ما ذكرناه، تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبا، لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها . ولا بد أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أئمة أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم كالشافعي وإسحاق وأحمد ومن سلك مسلكهم، فإن من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقهم، وقع في مفاوز ومهالك، وأخذ بما لا يجوز الأخذ به، وترك ما يجب العمل به . وملاك الأمر كله أن يقصد بذلك وجه الله، والتقرب إليه، بمعرفة ما أنزله على رسوله، وسلوك طريقه، والعمل بذلك، ودعاء الخلق إليه، ومن كان كذلك وفقه الله وسدده، وألهمه رشده، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في قوله تعالى: وأبي عبيد إنما يخشى الله من عباده العلماء ومن الراسخين في العلم . [ ص: 460 ] فقد خرج في "تفسيره" من حديث ابن أبي حاتم أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الراسخين في العلم، فقال: "من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم" .
قال نافع بن يزيد: يقال: الراسخون في العلم: المتواضعون لله، المتذللون لله في مرضاته، لا يتعاطون من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم . ويشهد لهذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: اليمن، هم أبر قلوبا، وأرق أفئدة . الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية" . "أتاكم أهل
وهذا إشارة منه إلى ، ومن كان على طريقه من علماء أهل أبي موسى الأشعري اليمن، ثم إلى أبي مسلم الخولاني ، وأويس القرني، . وطاووس ووهب بن منبه ، وغيرهم من علماء أهل اليمن، وكل هؤلاء من العلماء الربانيين الخائفين لله، وكلهم علماء بالله يخشونه ويخافونه، وبعضهم أوسع علما بأحكام الله وشرائع دينه من بعض، ولم يكن تميزهم عن الناس بكثرة قيل وقال، ولا بحث ولا جدال .
وكذلك - رضي الله عنه -، أعلم الناس بالحلال والحرام، وهو الذي يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة، ولم يكن علمه بتوسعة المسائل وتكثيرها، بل قد سبق عنه كراهة الكلام فيما لم يقع، وإنما كان عالما بالله وعالما بأصول دينه . معاذ بن جبل
وقد قيل للإمام : من نسأل بعدك؟ قال: أحمد عبد الوهاب الوراق . قيل له: إنه ليس له اتساع في العلم، قال: إنه رجل صالح، مثله يوفق [ ص: 461 ] لإصابة الحق .
وسئل عن فقال: كان معه أصل العلم: خشية الله . وهذا يرجع إلى قول بعض السلف: كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا . وهذا باب واسع يطول استقصاؤه . معروف الكرخي،