ثم تدرج إلى تصور أنها من الأحياء؛ فإنها لا تستجيب للدعاء، فقال تعالت كلماته: إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين .
الخطاب للمشركين من أول الحديث في عبادتهم الأوثان، والله - سبحانه وتعالى - يتدرج في تصويره لما يعبدون من أحجار لا تنفع ولا تضر ولا تسمع، وليس فيها حياة - إلى فرض أن فيها حياة، وفي هذا الفرض البعيد لا يعلون عليكم معشر المشركين، بل ينهدون إلى أن يكونوا عبادا مثلكم، والمعبود يجب أن يكون أعلى منكم لتسجدوا له، فكيف تعبدون مثلكم؟ ولماذا تختارونه للعبادة وهو على أكثر تقدير له - مثلكم؟! [ ص: 3035 ] والحق أنه دونكم؛ لأنه أصم لا يسمع، أبكم لا يتكلم، قد محيت منه آية الإبصار فلا يرى، ولقد تحداهم أن يدعوهم، فإن استجابوا كان لكم أن تدعوا ما تدعون زورا وربما تعدون في العقول، ولذا قال تعالى: فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين دعواكم الألوهية، والأمر للتحدي أو للتعجيز لا للطلب ولا الإباحة.
وهنا ملاحظات بيانية:
الأولى - أنه سبحانه وتعالى قال عن الأحجار: عباد أمثالكم وكيف يقال إنها عباد؟ وكيف يقال: إنها مثل المشركين؟ وكيف يتحدث عنها كأنها جمع مذكر سالم ؟ والجواب عن هذا أن الواضح هو بيان مثليتها في أنها مخلوقة مثلهم، وعلى الأقل هي متماثلة مع المشركين في أنها خلق لله لا تعبد كما لا يعبدون، فكيف يعبدونها؟! وهذا القدر كاف لاستنكار عبادتها، وتسميتها عبادا من حيث إنها خاضعة لله، فلله يسجد طوعا أو كرها كل ما في السماء والأرض من أجرام.
والبعض يزعم أن للجماد روحا وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وعود الضمير عليها كضمير جمع العقل مجاراة لهم في تفكيرهم؛ إذ جعلوها من العقلاء فعبدوها.
الثانية - لام الأمر في قوله تعالى: فليستجيبوا لكم ما موضعها من القول؟ نقول: إن موضعها أنها لام الأمر، يطلب إليهم رب العزة أن يأمروهم ليستجيبوا، أي أن الأمر بالاستجابة ليس من الله تعالى؛ لأن الله تعالى لا يطلب الاستجابة ممن لا يجيب، بل الأمر يكون من غيره ممن يعبدها وليكون التعجيز والتحدي كاملا.
وبهذا التخريج يكون طلب الاستجابة من المشركين لا من الله تعالى.
[ ص: 3036 ] الثالثة - أن سياق القول يدل على أن الاستجابة غير ممكنة، ولذا كانوا غير صادقين، وبذلك ينتهي التحدي بالتعجيز والعجز، فعجزوا أن يثبتوا صدقهم.