إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين .
(إنما) للحصر، فهي أداة من أدوات القصر، والمعنى: "لا يعمر مساجد الله إلا من آمن بالله ..." والعمارة - كما ذكرنا - بالعبادة فيها حق العبادة، بأن يعبد الله وحده لا شريك، وأن يقوم بترميم وإصلاح ما وهي منه، وإذا كان المشركون يفعلون ذلك فإنهم بإشراكهم يبطلون ما صنعوا.
وإن : العمارة للمساجد نوعان
أحدهما معنوي، وهي عمارتها بالعبادة وإقامة شعائر الدين.
والثاني مادي، وهي ترميم ما يحتاج الترميم، وتنظيفها، وإضاءتها بالمصابيح، وغيرها مما يتصل ببنائها، وإنه لا يفعل الأمرين إلا الموحدون الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويغشونها لإقامة الدين وجمع المسلمين وسماع القرآن الكريم، ومواعظ رب العالمين، وهدي الرسول الأمين.
ويلاحظ أنه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، فالإيمان بالله الواحد الأحد هو الدين أو لبه، والإيمان باليوم الآخر هو فيصل الإذعان والتمرد، وفيصل الإيمان بالغيب والجحود به; إذ لا يكفر به إلا من لا يؤمن إلا بالمحسوس.
[ ص: 3253 ] وقد يسأل سائل: لماذا لم يذكر الرسول والإيمان به؟ والجواب عن ذلك أن الإيمان بالله يوجب أن يؤمن بالرسالة الإلهية، فالإيمان بالله يستلزم - لا محالة - الإيمان بالرسول الذي بعث رحمة للعالمين، ولأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هي التي جاء بها الرسول الكريم، وهو الذي علمه الرسول، فالعمل بها يتضمن - لا محالة - الإيمان بالرسول، فهذا عمل يتضمن علما; ولأن الإيمان بالله يقترن به دائما الإيمان بالرسول فكان الإيمان بالرسول معلوما من غير إعلام، وبينا من غير بيان.
وقوله تعالى: ولم يخش إلا الله ومعنى الخشية الخوف المقترن بالخضوع والخشوع، فمعنى قوله تعالى: ولم يخش إلا الله أي: لم يخش خوف خضوع وتذلل ومحبة إلا الله، فلا يخاف غيره من رئيس يرهب، أو صنم يعبد، ولا يذل لكبير، ولا لصنم، ولا يخضع لأحد غير الله.
قال : فإن قلت: كيف قيل: الزمخشري ولم يخش إلا الله والمؤمن يخشى المحاذير لا يتمالك ألا يخشاها؟ قلت: الخشية والتقوى في أبواب الدين، وألا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه أمران أحدهما حق الله والآخر حق نفسه فيؤثر حق الله على حق نفسه، وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها وأريد نفي ذلك.
قوله تعالى: فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، و(أولئك) إشارة إلى صفات هؤلاء من إيمان بالله واليوم الآخر، وإقامة الصلاة وإيتاء للزكاة، وألا يخشوا إلا الله، والإشارة إلى الصفات إيماء إلى أن هذه الصفات هي السبب في رجاء الهداية.
ومؤدى ذلك أولا: أن المشركين ليس لهم أن يكونوا من المهتدين; لأنهم لم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر، ويخشون غير الله، ولا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة.
[ ص: 3254 ] والرجاء من هؤلاء المؤمنين لأنهم قدموا ما يسوغ هذا الرجاء، وذكر الرجاء لمنع الاغترار، فإن الاغترار قد يدلي بالغرور، فيفسد التقرب، ولقد قال بعض الصوفية: إن معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت دلا وافتخارا.
وإن الآية تشير إلى ، وتنظيفها من الأوساخ الحسية والمعنوية بالمنع من لغو الحديث فيها، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فضل عمارة المساجد بالعبادة يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا، ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم، فليس لله بهم حاجة ".
وقال عليه الصلاة والسلام: " الحديث في المساجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش ".
وقال عليه السلام في حديث قدسي عن ربه: " إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره ".
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من ألف المسجد فقد ألف الله ".
وقال عليه الصلاة والسلام: " ". إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان
وعن رضي الله عنه: من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه. أنس
[ ص: 3255 ] وقد نقلنا هذه الأخبار في آداب المسجد وعمارته ونظافته وإضاءته من الكشاف ، وهي تدل على أمرين: للزمخشري
أولهما: أن عمارة المسجد تكون أولا بالعبادة فيه، وبعده عن لغو الحديث.
وثانيهما: العناية به وبإسراجه.