ولقد ضرب الله تعالى المثل للكفران بالنعمة ومآلها، والأمثال تضرب للناس لعلهم يعقلون، فقال:
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
جعل حال قرية مثلا مصورا لمن يكون في رغد العيش والأمن والاستقرار، ثم يكفر بنعمة الله لينزل عليه البلاء فيحرم نعمة الاطمئنان، ويستبدل بها خوفا، أو يحرم رغد العيش، ويستبدل به جورا، وجعل المثل حال قرية - وهي المدينة الكبيرة لمكة - الدنيوي خسفا أو زلزالا، أو أمطار الحجارة فقط، بل قد يكون العقاب الدنيوي ضيقا في الرزق بعد السعة، وخوفا بعد أمن، وهذا مجمل معاني النص القرآني؛ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان (وضرب) ، أي بين، (مثلا) ، أي: حالا ثابتة، (قرية) وهي مفعول وأخرت عن (مثلا) ، وهي المفعول الأول؛ وذلك لأن الأوصاف التي تجيء بعد ذلك كانت أوصافا في القرية، وهو مورد المثل وموضعه، ولأن ذكر المثل بها ثم ذكر مورده وموضعه يكون بعد ترقب واستشراف، فيكون أمكن في النفس والفؤاد.
[ ص: 4285 ] وهذه القرية وصفها الله تعالى بأنها كانت آمنة كما كانت مكة، فقد كان فيها حرم آمن يتخطف الناس من حوله وكان يأتيها رزقها رغدا واسعا كثيرا؛ إذ كان يجبى إليها من الثمرات استجابة لدعوة إبراهيم - عليه السلام -، وإذ قال سبحانه: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون
وقال تعالى في هذه القرية: فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (الفاء) للترتيب والتعقيب، أي أنها بدل أن تشكر نعمة الله إذ منحها الأمن والعيش الرغد الهنيء، وهذا أقصى ما يطلب لمثل هذه القرية، بدل هذا كفرت، أي: رتبت على النعمة الكفر بها، وهذا عكس ما يترقب، ويتوقع منها. فكان هذا فيه معنى التوبيخ أو التهكم بأمرها، و(الأنعم) جمع نعمة، أو جمع نعمى، والمعنى النعم العالية التي بلغت أقصاها.
وقوله تعالى: فأذاقها الله لباس الجوع والخوف في الكلام استعارتان:
الاستعارة الأولى: أنه شبه الجوع والخوف باللباس السابغ الذي يغشى الداخل والخارج، وذلك بجامع اشتماله على الجسد والنفس وكل الجوارح، فإن اللباس يغشى الجسم كله، والخوف والجوع يغشيان الجسم كله، فالخوف يغشى الجسم بالاضطراب والهلع والجزع، والجوع يغشاه بالضعف والحاجة، وهي كالعري، أو كالثوب الذي لا يستر.
والاستعارة الثانية: هي تشبيه الجوع والخوف بالشيء الذي يذاق جريا على ما يجري على الألسنة من قول: فلان ذاق مرارة الجوع، وقد قال في ذلك إمام البلاغة " أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة في البلايا والشدائد، وما يمس الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه العذاب، شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر. الزمخشري:
[ ص: 4286 ] هذه خلاصة ما يقال في هذا المثل الرائع، وتلك الحكمة المباركة، وهو مثل يعطي صورة بيانية رائعة لمحكم القول.
وقد أسهب في بيان الاستعارة حتى قال الزمخشري الناصر أحمد بن المنير الذي يتعقبه بالنقد اللائم: قال " وهذا الفصل من كلامه يستحق أن يكتبوه بذوب التبر، لا بالحبر ". أحمد:
وقد ذكر ابن كثير أن المثل ينطبق على أهل مكة، قد كانوا يعيشون آمنين في رغد، ولكنهم اضطهدوا المؤمنين وآذوهم واستعصوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل بهم البلاء، وحق فيهم قول الله تعالى: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ودعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " ، وقد أصابهم الجوع الشديد - دع عنك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سد عليهم مسالك تجارتهم حتى أحسوا بنعمة الله عليهم، وذلك كله بين الله سببه بقوله تعالت كلماته: " اللهم اشدد وطأتك على بما كانوا يصنعون أي بسبب الذي كانوا يصنعونه من شرك وصد عن سبيل الله تعالى، ولعنتهم للمؤمنين، وحملهم على الردة بعد إيمان.