وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا
نهى الله النبي عن أن يطرد هؤلاء الضعفاء، وإن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يميل إلى تأليف قلوب الأقوياء للدخول في الإسلام لينال بقوتهم قوة، ولكن الله تعالى بين أن القوة في الإيمان، لا في غطرسة المتغطرسين وإن أولئك وإن كانوا ضعفاء فقراء فإنهم أقوياء بعزة الإيمان وبعزة الحق ولا تفرقة بين أتباع الأنبياء بالطبقية، إنما التفرقة بقوة الإيمان والتقوى كما قال تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم وإن الرفعة بين أتباع الأنبياء بالإيمان والعبادة. وقد ذكر الذين نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن طردهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي، ومعنى يدعون يعبدون مخلصين; لأن العبادة دعاء، والدعاء: التضرع الخالص، وهو مخ العبادة، وهو لبها، ولذلك عبر عن العبادة بالدعاء - وبالغداة [ ص: 2513 ] والعشي: المراد في الصباح والمساء، أي: أنهم في عامة أوقاتهم ذكروا الله تعالى ربهم الذي خلقهم وكلأهم وحماهم، يريدون وجه الله، لا يقصدون عرضا من أعراض الدنيا، وينصرفون إليه تعالى لا يريدون إلا ذاته الكريمة ولا يقصدون سواه، فكيف يطرد هؤلاء لأجل ناس لا يعرفون إلا عرض الدنيا، وإن الله تعالى قد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يكون مع هؤلاء، فإنهم قوة، والإيمان يملأ النفس قوة; لأنها قوة الصبر، ولذلك قال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا
ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين
جاء هذا النص الكريم بعد قوله تعالت كلماته: يريدون وجهه أي: يقصدون بعبادتهم ذاته العلية ولا يقصدون شيئا سواها، مهما يكن، وإن الله تعالى يتولى حسابهم بالجزاء، وما يعود عليك من حسابهم شيء ولا يعود عليهم من حسابك شيء فهم عباد مجزيون بأعمالهم، كما أنك يا محمد مجزي بعملك، فليس لك أن تطردهم، وهذا التعبير: ما عليك من حسابهم من شيء يشبه ما نقل عن نوح -عليه السلام- في قول الله تعالى: قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون
ويؤدي التعبير على هذا أن هؤلاء آمنوا بربهم وحسابهم عند ربهم، وما علي من حسابهم من شيء، كما لا يحاسبون على عملي، فكل له عمله، فكيف أطردهم، ولذلك قال تعالى: فتطردهم فتكون من الظالمين أي: فإن طردتهم استجابة لغيرهم وأنت لا تتحمل مغبة أعمالهم، ولا ما هم فيه كنت من الظالمين; إذ لا وزر كان منهم يستوجب الطرد إلا مسارعتهم للإيمان بما جئت وتلكؤ غيرهم، إن ذلك لظلم عظيم إن كان، ولا يمكن أن يكون من محمد صلى الله عليه وسلم.
[ ص: 2514 ] وهناك تخريج آخر، لقوله: ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء بأن المعنى ما عليك شيء من حساب رزقهم إن كانوا فقراء وما من حسابك في الفقر والغنى عليهم من شيء، أي: إنك أنت هاد ومرشد، داع إلى من يقرب منك ومن يجيب، وسواء أكان فقيرا أم كان غنيا، فكيف ترد فقيرا مهديا لفقره وتقرب غنيا غير مهدى لغناه، فإن تطردهم من بعد فإنك تكون من الظالمين، ومعاذ الله أن يكون ذلك منك.
إن الضعفاء أول من يتبع الأنبياء؛ لأنهم غير مشغولين بالمال والبنين وزخارف الحياة، وضجاتها، ولجاجة القوة وخصوصا ما يكون منها على غير أساس من الأخلاق، فنفوسهم تكون أقرب إلى الفطرة والاستقامة; ولذلك كان غالب الذين اتبعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- من الضعفاء والعبيد، وكل الذين يحسون بآلام الحياة الدنيا، ورجاء حياة أخرى، ولقد سأل هرقل ملك الرومان الذي كان قائد الشرك إبان ذاك عمن يتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم; فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: فكذلك أتباع الرسل. أبا سفيان بن حرب
وإن هذا بلا ريب اختبار لنفوس الأقوياء؛ فقوله: فتنا معناها اختبرنا، وكان فتنة لهم من ناحيتين: الناحية الأولى أن جاههم مع كبريائهم سيكون حاجزا لا يسهل دخول الإيمان في قلوبهم.
الثانية: سيجدون أن الذين يسبقونهم إلى الإسلام هم الضعفاء، فيكون ذلك صعوبة نفسية أخرى لا تسهل دخول الحق إلى قلوبهم، ويقول قائلهم الضال: لو كان خيرا ما سبقونا إليه ومن يجتاز هاتين الصعوبتين من الأقوياء يكون إيمانه أرسخ من الجبال كأبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وحمزة بن عبد المطلب، [ ص: 2515 ] وعمر بن الخطاب، وغيرهم من الأقوياء ذوي الوجاهة في الجاهلية والوجهاء عند الله والناس في الإسلام. وعبد الرحمن بن عوف،
والكاف في قوله تعالى: وكذلك فتنا للتشبيه، وقد شبهت الصورة الكلية لاختبار الله تعالى لخلقه، أو على الحقيقة معاملته معاملة المختبر لهم شبهت تلك الصورة بهذه الحالة القائمة، التي آمن فيها الضعفاء وسبقوا بها الأقوياء، وصار لهم فضل السبق، والتشبيه للتقريب والتوضيح، واللام في قوله تعالى: ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا للعاقبة أي: وما كانت هي الباعث على الاختبار، ولكن كانت عاقبة ونتيجة الاختبار.
أليس الله بأعلم بالشاكرين
يثبت الله سبحانه وتعالى هذا النص بثلاثة أمور:
أولها: أن الفضل ليس بالغنى، ولا بالجاه ولا بالقوة في الدنيا، ولكن بمقدار شكر الله تعالى على ما أنعم، والإنسان في الوجود محفوف بنعم الله تعالى تحوط به من يوم خروجه إلى الحياة إلى وقت مفارقتها، وواجب عليه الشكر لها؛ فشكر النعم واجب بمقتضى العقل والنقل، وبمقدار شكر النعمة يكون الفضل.
ثانيها: أن أولئك الذين يسارعون إلى الإيمان بوحدانية الديان، هم أصحاب الفضل; لأنهم هم الذين يسارعون إلى الإيمان، ودعوة الله وعبادته، والإذعان له.
ثالثها: أن الله هو وحده العالم بمن يستحق الفضل وبمن يشكره وهو المستحق للفضل منه، وأفعل التفضيل على غير بابه، والمراد أنه سبحانه يعلم الشاكرين علما ليس فوقه علم، فهو وحده العليم، السميع البصير.