الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 181 ] باب اليمين في الحج والصلاة والصوم ( ومن قال في الكعبة أو في غيرها علي المشي إلى بيت الله تعالى أو إلى الكعبة فعليه حجة أو عمرة ماشيا وإن شاء ركب وأهراق دما ) وفي القياس لا يلزمه شيء لأنه التزم ما ليس بقربة واجبة ولا مقصودة في الأصل ، مأثور عن علي رضي الله عنه . ولأن الناس تعارفوا إيجاب الحج والعمرة بهذا اللفظ فصار كما إذا قال علي زيارة [ ص: 182 ] البيت ماشيا فيلزمه ماشيا ، وإن شاء ركب وأراق دما ، وقد ذكرناه في المناسك ( ولو قال علي الخروج أو الذهاب إلى بيت الله تعالى فلا شيء عليه ) لأن التزام الحج أو العمرة بهذا اللفظ غير متعارف ( ولو قال : علي المشي إلى الحرم أو إلى الصفا والمروة فلا شيء عليه ) وهذا عند أبي حنيفة ( وقال أبو يوسف ومحمد في قوله علي المشي إلى الحرم حجة أو عمرة ) ولو قال إلى المسجد الحرام فهو على هذا الاختلاف . لهما أن الحرم شامل على البيت ، وكذا المسجد الحرام فصار ذكره كذكره ، بخلاف الصفا والمروة لأنهما منفصلان عنه . وله أن التزام الإحرام بهذه العبارة غير متعارف ولا يمكن إيجابه باعتبار حقيقة اللفظ فامتنع أصلا

التالي السابق


( باب اليمين في الحج والصلاة والصوم ) قدمها بعد ما تقدم لأنها عبادات فتترجح في نفسها ، فيقتضي ذلك إن تقدم ، إلا أن يعرض ما يوجب تقديم غيرها من كثرة الوقوع المقتضية لأهمية التقديم ( قوله ومن قال وهو في الكعبة أو في غيرها علي المشي إلى بيت الله أو إلى الكعبة ) وكذا علي المشي إلى مكة أو بكة بالباء ( فعليه حجة أو عمرة ماشيا وإن شاء ركب وأهراق دما ) [ ص: 182 ] والتقييد بكونه في الكعبة مذكور في الجامع الصغير ليفيد أن وجوب أحد النسكين بهذه العبارة ليس باعتبار أنه مدلول اللفظ وإلا لغا لأنه لا يلتزم المشي إلا ليصل إليه ، فإذا كان فيه استحال التسبب لحصوله . والحق أن يقال ليس باعتبار أنه مدلول اللفظ ; لأن الواقع أن مدلول المشي ليس هو الحج أو العمرة ، بل ولا يستلزمه لجواز أن [ ص: 183 ] يمشي إلى البيت ولا يفعل نسكا ، إما ابتداء معصية وإما بأن يقصد مكانا في الحل داخل المواقيت ليس غير ، فإذا وصل إليه صار حكمه حكم أهله ، وله بعد ذلك أن يدخل مكة والبيت بلا إحرام ، وهذا لأن من الجائز أن يكون في البيت ويوجب المشي إليه مرة أخرى فيلزمه إذا خرج أن يعود ، كما لو كان في بيت فقال ، والله لأدخلن هذا البيت فإن عليه أن يخرج ثم يدخل مرة ثانية ، ولا باعتبار الحكم بذلك مجازا باعتبار أنه سبب الإحرام صونا له عن اللغو لأنه ليس لازما له لجواز أن يقصد بسيره مكانا داخل المواقيت ليس غير كما ذكرنا ، ولا بالنظر إلى الغالب وهو أن الذهاب إلى هناك يكون لقصد الإحرام لما عرف من إلغاء الألفاظ وهي ما إذا نذر الذهاب إلى مكة كأن قال : علي الذهاب أو لله علي الذهاب إلى مكة أو السفر إليها أو الركوب إليها أو المسير أو المضي أنه لا يلزمه شيء مع إمكان أن يحكم بذلك فيها صونا عن اللغو ، بل لأنه تعورف إيجاب أحد النسكين به فصار فيه مجازا لغويا وحقيقة عرفية ، مثل ما لو قال : علي حجة أو عمرة ، وإلا فالقياس كما ذكره المصنف أن لا يجب بهذا شيء لأنه التزم ما ليس بقربة واجبة وهو المشي ولا مقصودة في الأصل . ولو قيل بل هي واجبة فإن المكي إذا قدر على المشي يلزمه الحج ماشيا ، أجيب بأن الشرط للزوم النذر على ما قدمناه بعد كونه من جنسه واجب أن يكون مقصودا لنفسه لا لغيره حتى يلزمه النذر بالوضوء لكل صلاة والمشي المذكور ، وكذا السعي إلى الجمعة كذلك لمن لا يملك مركبا ويقدر على المشي إلا أنه قد يعكر عليه الطواف فإنه واجب مقصود لنفسه لا شرط لغيره إلا أن يراد من جنس المشي إلى مكة . وأورد أن الاعتكاف يلزم بالنذر وليس من جنسه واجب . أجيب بأن من شرطه الصوم ومن جنسه واجب ، وتوجيهه أن إيجاب المشروط إيجاب الشرط ، ولا خفاء في بعده فإن وجوب الصوم فرع وجوب الاعتكاف بالنذر ، والكلام الآن في صحة وجوب المتبوع فكيف يستدل على لزومه بلزومه ولزوم الشرط فرع لزوم المشروط ، وإن استدل بالإجماع أو النص المتقدم في حديث عمر رضي الله عنه الاعتكاف في الجاهلية فهم لا يقولون بهذا الحديث بل يصرفونه عن ظاهره لأنهم والشافعي لا يصححون نذر الكافر . ثم قد يقال تحقق الإجماع على لزوم الاعتكاف بالنذر يوجب إهدار اشتراط وجود واجب من جنسه ، وإذا تعارفوه للإيجاب صار كقوله : علي زيارة البيت ماشيا فإنه موجب لذلك ، ولو أراد ببيت الله بعض المساجد لم يلزمه شيء ، وكذا لا يلزمه بقوله : علي المشي إلى بيت المقدس أو مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم شيء . وأورد أنه إذا كان كقوله : علي حجة أو عمرة ينبغي أن لا يلزمه المشي لأنه لو قال : علي الحج لا يلزمه . والجواب أن الحق أن التقدير على حجة أو عمرة ماشيا لأن المشي لم يهدر اعتباره شرعا ، فإنه روي { عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هديا } رواه أبو داود وغيره وسنده حجة ، وما في صحيح مسلم أنه قال { لتمش ولتركب } فمحمول إما على ذكر بعض المروي ، وعلى هذا اقتصرنا في كتاب الحج : يعني أن محل الإشكال جواز ركوبها ولو أهدت ; كما لو نذر الصوم بصفة التتابع ليس له أن يفرق ويتصدق ، بل لو فرق لزم استئنافه فاقتصر الراوي على ذلك ليفيد دفع ذلك ، وعرف لزوم الفدية من الحديث الآخر أو محمول على حالة الجهد ، فإن في بعض طرقه { وإنها لا تطيق ذلك } ثم يعرف لزوم الفدية من الحديث الآخر وقد ذكرنا بقيته هناك ذيلا طويلا وفروعا جمة ، وأن الراجح أنه يلزمه المشي من بيته [ ص: 184 ] لا من حيث يحرم فيه من الميقات : يعني فالخلاف فيما إذا لم يحرم منه وهل يلزمه المشي منه أو من حيث يحرم فيه من الميقات ، أما لو أحرم من بيته لزمه المشي منه بالاتفاق . واعلم أن في بعض طرق حديث أخت عقبة قال { ولتهد بدنة } لكنهم عملوا بإطلاق الهدي في الحديث الآخر الثابت في الصحيحين . وأخرج الحاكم في المستدرك من حديث { عمران بن الحصين قال ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة ، وقال : إن من المثلة أن ينذر الرجل أن يحج ماشيا ، فمن نذر أن يحج ماشيا فليهد هديا وليركب } وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، لكن حمل المطلق على المقيد إذا كانا في حادثة واحدة واجب فتجب البدنة ، ثم المصنف ذكر هذا المذهب عن علي رضي الله عنه ، والمروي عن علي من طريق الشافعي عن ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن علي في الرجل يحلف على المشي قال : يمشي ، فإن عجز ركب وأهدى بدنة . ورواه عبد الرزاق عن علي بسند صحيح فيمن نذر أن يمشي إلى البيت قال : يمشي ، فإذا أعيا ركب وأهدى جزورا . وأخرج نحوه عن ابن عمر وابن عباس وقتادة والحسن . وأما ورود البدنة في خصوص حديث أخت عقبة بن عامر فأسند أبو يعلى في مسنده : حدثنا زهير ، حدثنا أحمد بن عبد الوارث ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس { أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال : إن الله عز وجل غني عن نذر أختك ، لتركب ولتهد بدنة } وأما إذا كان الناذر بمكة وأراد أن يجعل الأحد الذي لزمه حجا فإنه يحرم من الحرم ويخرج إلى عرفات ماشيا إلى أن يطوف طواف الزيارة كغيره ، وإن أراد إسقاطه بعمرة فعليه أن يخرج إلى الحل فيحرم منه . وإنما اختلفوا في أنه يلزم المشي في ذهابه إلى الحل أو لا يلزمه إلا بعد رجوعه منه محرما . والوجه يقتضي أنه يلزمه المشي لما قدمناه في الحج من أنه يلزمه المشي من بلدته مع أنه ليس محرما منها بل هو ذاهب إلى محل الإحرام ليحرم منه : أعني المواقيت في الأصح لما قدمنا عن أبي حنيفة : لو أن بغداديا قال إن كلمت فلانا فعلي أن أحج ماشيا فلقيه بالكوفة فكلمه فعليه أن يمشي من بغداد . ولو قال : علي السفر إلى بيت الله فقد علمت أنه لا يلزمه شيء مع إخوانه ، ومثله الشد والهرولة والسعي إلى مكة ، وكذا علي المشي إلى أستار الكعبة أو باب الكعبة أو ميزابها أو أسطوانة البيت أو الصفا أو المروة إلى عرفات ومزدلفة لا يلزمه شيء . واختلفوا فيما إذا قال : لله علي المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام قال أبو حنيفة لا يلزمه شيء ، وقال صاحباه : يلزمه أحد النسكين . والوجه في ذلك أن يحمل على أنه تعورف بعد أبي حنيفة إيجاب النسك بهما فقالا به كما تعورف بالمشي إلى الكعبة ويرتفع الخلاف ، وإلا فالوجه الذي ذكر لهما متضائل وهو أن الحرم والمسجد الحرام يشتمل على الكعبة فذكر المشتمل ذكر للمشمول وهو الكعبة ، ولو صرح بقوله لله علي المشي إلى الكعبة لزمه ، فكذا ذكر المشتمل لأن إيجاب اللفظ لتعارف عينه فيه ، وليس عين المشي إلى الحرم عينه وهو وجه أبي حنيفة




الخدمات العلمية