الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 315 ] ( باب التحكيم ) .

[ ص: 316 ] ( وإذا حكم رجلان رجلا فحكم بينهما ورضيا بحكمه جاز ) لأن لهما ولاية على أنفسهما فصح تحكيمهما وينفذ حكمه عليهما ، وهذا إذا كان المحكم بصفة الحاكم لأنه بمنزلة القاضي فيما بينهما فيشترط أهلية القضاء ، ولا يجوز تحكيم الكافر والعبد والذمي والمحدود في القذف والفاسق والصبي لانعدام أهلية القضاء اعتبارا بأهلية الشهادة والفاسق إذا حكم يجب أن يجوز عندنا كما مر في المولى [ ص: 317 ] ( ولكل واحد من المحكمين أن يرجع ما لم يحكم عليهما ) لأنه مقلد من جهتهما فلا يحكم إلا برضاهما جميعا ( وإذا حكم لزمهما ) لصدور حكمه عن ولاية عليهما ( وإذا رفع حكمه إلى القاضي فوافق مذهبه أمضاه ) لأنه لا فائدة في نقضه ثم في إبرامه على ذلك الوجه ( وإن خالفه أبطله ) لأن حكمه لا يلزمه لعدم التحكيم منه .

التالي السابق


( باب التحكيم )

هذا أيضا من فروع القضاء ، والمحكم أحط رتبة من القاضي ، فإن القاضي يقضي فيما لا يقضي المحكم فأخره عنه ، ولهذا قال أبو يوسف : إنه لا يجوز تعليق التحكيم بالشرط وإضافته ، بخلاف القضاء لأن حكمه بمنزلة الإصلاح والواقع منه كالصلح ، أو هو صلح من وجه فلا يكون مثله بالشك . والتحكيم جائز بالكتاب قوله تعالى { فابعثوا حكما من أهله } الآية ، وفيه نظر .

وأما السنة فما { قال أبو شريح يا رسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شيء فأتوني فحكمت بينهم فرضي عني الفريقان ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما أحسن هذا } رواه النسائي وأجمع على أنه صلى الله عليه وسلم عمل بحكم سعد بن معاذ في بني قريظة لما اتفقت اليهود على الرضا بحكمه فيهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروي أنه كان بين عمر وأبي بن كعب منازعة في نخل فحكما بينهما زيد بن ثابت فأتياه فخرج زيد وقال لعمر : هلا بعثت إلي فآتيك يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : في بيته يؤتى الحكم ، فدخلا بيته فألقى لعمر وسادة ، فقال عمر : هذا أول جورك فكانت اليمين على عمر ، فقال زيد لأبي : لو أعفيت أمير المؤمنين ، فقال عمر : يمين لزمتني ، فقال أبي : نعفي أمير المؤمنين ونصدقه ، وليعلم أنه لا يظن بأحد منهما في هذه الخصومة التلبيس ، وإنما هي لاشتباه الحادثة عليهما فتقدما إلى الحكم للتبيين لا للتلبيس . وفي الحديث جواز التحكيم وأن زيدا كان معروفا بالفقه . وقد روي أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يختلف إليه ويأخذ بركابه عند ركوبه ، وقال هكذا أمرنا أن نصنع بفقهائنا ، فقبل زيد يده وقال : هكذا أمرنا أن نصنع بأشرافنا . وفيه أن الإمام لا يكون قاضيا في حق نفسه ، وأنه ينبغي أن من احتاج إلى العلم يأتي إلى العالم في بيته ولا يبعث إليه ليأتيه وإن كان أوجه الناس . وأما إلقاء زيد الوسادة فاجتهاد من قوله صلى الله عليه وسلم { إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه } { وبسط النبي صلى الله عليه وسلم رداء لعدي بن حاتم } ، وأن الخليفة ليس كغيره ، واجتهاد عمر على تخصيص هذه الحالة من عموم الأول ، وأنه لا بأس بالحلف صادقا ، وامتناع عثمان عن اليمين حين لزمته كان لأمر آخر ، وأن [ ص: 316 ] اليمين حق المدعي له أن يستوفيها ويسقط بإسقاطه .

( قوله وإذا حكم رجلان رجلا ) أو امرأة ( فحكم بينهما ورضيا بحكمه ) إلى أن حكم ( جاز لأن لهما ولاية على أنفسهما فصح تحكيمهما ) وسنذكر لهذا تخصيصات : أولها قوله ( وهذا إذا كان المحكم بصفة الحاكم ) بأن يكون أهلا للشهادة ( فلا يجوز تحكيم الكافر والعبد والذمي ) إلا أن يحكمه ذميان لأنه من أهل الشهادة عليهم فهو من أهل الحكم عليهم ( و ) كذلك ( المحدود في القذف والفاسق ) لا يجوز تحكيم أحد من هؤلاء ( لعدم أهلية القضاء لعدم أهلية الشهادة . والفاسق إذا حكم يجب أن يجوز عندنا كما مر في المولى ) الفاسق ينفذ حكمه . وقوله ( وينفذ حكمه عليهما ) عطف على جواب المسألة : أعني قوله جاز ، وهذه شروط التحكيم فقدمناها على الجواب ، ولو قدم المجرور فقال وعليهما ينفذ حكمه كان مفيدا للحصر فيفيد أنه [ ص: 317 ] لا ينفذ على غيرهما ، فلو حكماه في عيب بالمبيع فقضى برده ليس للبائع أن يرده على بائعه إلا أن يتراضى البائع الأول والثاني والمشتري على تحكيمه فحينئذ يرده على الأول ، ولو اختصم الوكيل بالبيع مع المشتري منه في العيب فحكم برده على الوكيل لم يلزم الموكل إذا كان العيب يحدث مثله رواية واحدة إلا أن يرضى الموكل بتحكيمه معهما . وإن كان العيب لا يحدث مثله ولم يدخل الموكل معهم في التحكيم ففي لزومه للموكل روايتان ، وإنما اقتصر حكمه ولم يتعد لأنه كالمصالح . ثم تشترط هذه وقت التحكيم ووقت القضاء جميعا حتى لو حكما عبدا فعتق أو صبيا أو ذميا فبلغ وأسلم ثم حكم لا ينفذ كما في المقلد ، وكذا لو كان مسلما وقت التحكيم ثم ارتد لا ينفذ حكمه ثم الإضافات في قوله ولا يجوز تحكيم العبد إلخ من إضافة المصدر إلى المفعول ، ولو اعتبرت إلى الفاعل جاز في بعضها دون بعض . وفي المغني : يجوز تحكيم المكاتب والعبد المأذون كالحر ، وتحكيم الذمي ذميا ليحكم بينه وبين ذمي يجوز لما ذكرنا .

( قوله ولكل واحد من المحكمين أن يرجع ما لم يحكم عليهما لأنه مقلد من جهتهما ) إذ هما الموليان له فلهما عزله قبل أن يحكم كما أن للسلطان أن يعزل القاضي قبل أن يحكم ولو حكم قبل عزله نفذ وعزله بعد ذلك لا يبطله فكذا هذا ( وإذا نفذ حكمه لزمهما لصدور حكمه عن ولاية كاملة عليهما ) فقط لأنه لا يكون دون الصلح وبعدما تم الصلح ليس لواحد أن يرجع .

( قوله وإذا رفع حكمه إلى القاضي فوافق مذهبه أمضاه لأنه لا فائدة في نقضه ثم إبرامه على ذلك الوجه ) بعينه ( وإن خالفه أبطله ) وقال مالك وابن أبي ليلى : هو كالمقلد فلا يبطله إلا أن يكون جورا بينا لم يختلف فيه أهل العلم ، ونحن فرقنا بأن ولاية القاضي عامة على الناس لعموم ولاية الخليفة المقلد له ، بخلاف الموليين له إنما لهما ولاية على أنفسهما فقط لا على القاضي فلا يلزم حكمه القاضي لأنه لم يحكمه ، ولأن تقليدهما إياه بمنزلة اصطلاحهما على شيء في المجتهدات كان للقاضي أن يبطله أو ينفذه فكذا هذا ، وهذا يبين لك أن المراد من قوله وإن خالفه أبطله ليس ما يعفيه ظاهره من لزوم إبطال القاضي إياه بل جواز [ ص: 318 ] أن يبطله وأن ينفذه . وعبارة المبسوط بعد أن ذكر الوجه فلا يجب تنفيذ حكمه على القاضي .




الخدمات العلمية