فصل [ ؟ ] هل في اللطمة والضربة قصاص
وقالت الحنفية والشافعية والمالكية ومتأخرو أصحاب : إنه لا قصاص في اللطمة والضربة ، وإنما فيه التعزير ، وحكى بعض المتأخرين في ذلك الإجماع ، وخرجوا عن محض القياس وموجب النصوص وإجماع الصحابة فإن ضمان النفوس والأموال مبناه على العدل ، كما قال - تعالى - : { أحمد وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وقال : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } فأمر بالمماثلة في العقوبة والقصاص ، فيجب اعتبارها بحسب الإمكان ، والأمثل هو المأمور به ، فهذا الملطوم المضروب قد اعتدي عليه ، فالواجب أن يفعل بالمعتدي كما فعل به ، فإن لم يمكن كان الواجب ما هو الأقرب والأمثل ، وسقط ما عجز عنه العبد من المساواة من كل وجه ، ولا ريب أن لطمة بلطمة وضربة بضربة في محلهما بالآلة التي لطمه بها ، أو بمثلها أقرب إلى المماثلة المأمور بها حسا وشرعا من تعزيره بها بغير جنس اعتدائه وقدره وصفته ، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ومحض القياس وهو منصوص ، ومن خالفه في ذلك من أصحابه فقد خرج عن نص مذهبه وأصوله كما خرج عن محض القياس والميزان ، قال الإمام أحمد إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في كتابه المترجم له " باب في القصاص من اللطمة والضربة " : حدثني إسماعيل بن سعيد قال : سألت عن القصاص من اللطمة والضربة ، فقال : " عليه القود من اللطمة والضربة " وبه قال أحمد بن حنبل أبو داود وأبو خيثمة . وابن أبي شيبة
وقال إبراهيم الجوزجاني " وبه أقول ، لما حدثنا ثنا شبابة بن سوار عن شعبة يحيى بن الحصين قال : سمعت طارق بن شهاب يقول : لطم أبو بكر رجلا يوما لطمة ، فقال له : اقتص ، فعفا الرجل ، حدثنا أنبأ شبابة عن شعبة مخارق قال : سمعت طارقا يقول : لطم ابن أخ [ ص: 241 ] رجلا من مراد ، فأقاده لخالد بن الوليد منه . خالد
حدثنا أبو بهز حدثنا قال : سمعت أبو بكر بن عياش عن الأعمش كميل بن زياد قال : لطمني ثم أقادني فعفوت ، حدثني عثمان ابن الأصفهاني حدثنا عبد السلام بن حرب عن ناجية عن عمه يزيد بن عربي قال : رأيت - كرم الله وجهه في الجنة - أقاد من لطمة . عليا
وحدثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عبد الله بن إسماعيل بن زياد ابن أخي عمرو بن دينار أن أقاد من لطمة ، ثنا ابن الزبير عن يزيد بن هارون عن الجريري عن أبي نضرة أبي فراس قال : خطبنا فقال : إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ، ولكن إنما بعثتهم ليبلغوكم دينكم وسنة نبيكم ويقسموا فيكم فيئكم ، فمن فعل به غير ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه ، فقام إليه عمر فقال : يا أمير المؤمنين إن كان رجل من المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته لتقصنه منه ، فقال عمرو بن العاص : أنا لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه ؟ عمر
ثنا عن محمد بن كثير الأوزاعي عن ابن حرملة قال : تلاحى رجلان فقال أحدهما : ألم أخنقك حتى سلحت ؟ فقال : بلى ، ولكن لم يكن لي عليك شهود ، فاشهدوا على ما قال ، ثم رفعه إلى ، فأرسل في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فقال : يخنقه كما خنقه حتى يحدث ، أو يفتدي منه ، فافتدى منه بأربعين بعيرا ، فقال سعيد بن المسيب ابن كثير : أحسبه ذكره عن عثمان .
ثنا ثنا الحسين بن محمد عن ابن أبي ذئب المطلب بن السائب أن رجلين من بني ليث اقتتلا ، فضرب أحدهما الآخر فكسر أنفه ، فانكسر عظم كف الضارب ، فأقاد من أنف المضروب ولم يقد من يد الضارب ، فقال أبو بكر : كان لهذا أيضا القود من كفه ، قضى سعيد بن المسيب أن كل مقتتلين اقتتلا ضمنا ما بينهما ، فأقيد منه ، فدخل المسجد وهو يقول : يا عباد الله كسر عثمان يدي ، قال ابن المسيب الجوزجاني : فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلة أصحابه فإلى من يركن بعدهم ؟ ، أو كيف يجوز خلافهم ؟ "
قلت : وفي السنن لأبي داود من حديث والنسائي قال : { أبي سعيد الخدري } . بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما أقبل رجل فأكب عليه فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه ، فجرح وجهه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعال فاستقد ، فقال : بل عفوت يا رسول الله
وفي سنن النسائي وأبي داود وابن ماجه عن رضي الله عنها ، { عائشة أبا جهم بن حذيفة مصدقا ، فلاحاه رجل في صدقته ، فضربه فشجه ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : القود يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لكم كذا وكذا فلم يرضوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لكم كذا وكذا فرضوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني خاطب العشية على الناس ومخبرهم برضاكم فقالوا : نعم ، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن هؤلاء أتوني يريدون القصاص ، فعرضت [ ص: 242 ] عليهم كذا وكذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فرضوا ، أرضيتم ؟ فقالوا : لا ، فهم أبو جهم المهاجرون بهم ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم ، فكفوا عنهم ، ثم دعاهم فزادهم ، فقال : أرضيتم ؟ فقالوا : نعم ، فقال : إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم فقالوا : نعم ، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أرضيتم ؟ قالوا : نعم } . أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
وهذا صريح في ولهذا صولحوا من القود مرة بعد مرة حتى رضوا ، ولو كان الواجب الأرش فقط لقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم حين طلبوا القود : إنه لا حق لكم فيه ، وإنما حقكم في الأرش . القود في الشجة
فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا إجماع الصحابة ، وهذا ظاهر القرآن ، وهذا محض القياس ، فعارض المانعون هذا كله بشيء واحد وقالوا : اللطمة والضربة لا يمكن فيهما المماثلة ، والقصاص لا يكون إلا مع المماثلة .
ونظر الصحابة أكمل وأصح وأتبع للقياس ، كما هو أتبع للكتاب والسنة ، فإن المماثلة من كل وجه متعذرة ، فلم يبق إلا أحد أمرين : قصاص قريب إلى المماثلة ، أو تعزير بعيد منها ، والأول أولى ; لأن التعزير لا يعتبر فيه جنس الجناية ولا قدرها ، بل قد يعزر بالسوط والعصا ، وقد يكون لطمه ، أو ضربه بيده ، فأين حرارة السوط ويبسه إلى لين اليد ، وقد يزيد وينقص .
وفي العقوبة بجنس ما فعله تحر للمماثلة بحسب الإمكان ، وهذا أقرب إلى العدل الذي أمر الله به وأنزل به الكتاب والميزان ، فإنه قصاص بمثل ذلك العضو في مثل المحل الذي ضرب فيه بقدره ، وقد يساويه ، أو يزيد قليلا ، أو ينقص قليلا ، وذلك عفو لا يدخل تحت التكليف ، كما لا يدخل تحت التكليف المساواة في الكيل والوزن من كل وجه كما قال تعالى { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها } فأمر بالعدل المقدور ، وعفا عن غير المقدور منه .
وأما التعزير فإنه لا يسمى قصاصا ، فإن لفظ القصاص يدل على المماثلة ، ومنه قص الأثر إذا اتبعه وقص الحديث إذا أتى به على وجهه ، والمقاصة : سقوط أحد الدينين بمثله جنسا وصفة ، وإنما هو تقويم للجناية ، فهو قيمة لغير المثلي والعدول إليه كالعدول إلى قيمة المتلف ، وهو ضرب له بغير تلك الآلة في غير ذلك المحل . وهو إما زائد وإما ناقص ، ولا يكون مماثلا ولا قريبا من المثل .
فالأول أقرب إلى القياس ، والثاني تقويم للجناية بغير جنسها كبدل المتلف ، والنزاع أيضا فيه واقع إذا لم يوجد مثله من كل وجه كالحيوان والعقار والآنية وكثير من المعدودات والمذروعات ، فأكثر القياسيين من أتباع الأئمة الأربعة قالوا : الواجب في بدل ذلك عند الإتلاف القيمة ، قالوا : لأن المثل في الجنس يتعذر ، ثم طرد أصحاب الرأي قياسهم فقالوا : وهذا هو الواجب في الصيد في الحرم والإحرام إنما تجب قيمته لا مثله كما لو كان مملوكا . ثم طردوا هذا القياس في القرض فقالوا : لا يجوز قرض [ ص: 243 ] ذلك ; لأن موجب القرض رد المثل ، وهذا لا مثل له .
ومنهم من خرج عن موجب هذا القياس في الصيد لدلالة القرآن والسنة وآثار الصحابة [ على أنه ] يضمن بمثله من النعم وهو مثل مقيد بحسب الإمكان وإن لم يكن مثلا من كل وجه وهذا قول الجمهور ، منهم : مالك والشافعي ، وهم يجوزون وأحمد أيضا كما دلت عليه السنة الصحيحة ، فإنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح { قرض الحيوان } ثم اختلفوا بعد ذلك في موجب قرض الحيوان ، هل يجب رد القيمة ، أو المثل ؟ على قولين ، وهما في مذهب أنه استسلف بكرا وقضى جملا رباعيا ، وقال إن خياركم أحسنكم قضاء وغيره ، والذي دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة أنه يجب رد المثل ، وهذا هو المنصوص عن أحمد ، ثم اختلفوا في أحمد على ثلاثة أقوال ، وهي في مذهب الغصب والإتلاف : أحمد
: أحدها : يضمن الجميع بالمثل بحسب الإمكان .
والثاني : يضمن الجميع بالقيمة .
والثالث : أن الحيوان يضمن بالمثل وما عداه كالجواهر ونحوها بالقيمة .