. [ لفظ الكراهة  يطلق على المحرم ] 
قلت : وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك ، حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم ، وأطلقوا لفظ الكراهة ، فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة ، ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه ، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى ، وهذا كثير جدا في تصرفاتهم ; فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة ، وقد قال الإمام  أحمد  في الجمع بين الأختين بملك اليمين : أكرهه ، ولا أقول هو حرام ، ومذهبه تحريمه ، وإنما تورع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول  عثمان    . 
وقال  أبو القاسم الخرقي  فيما نقله عن  أبي عبد الله    : ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة ، ومذهبه أنه لا يجوز ، وقال في رواية أبي داود    : ويستحب أن لا يدخل الحمام إلا بمئزر له ، وهذا استحباب وجوب ، وقال في رواية  إسحاق بن منصور    : إذا كان أكثر مال الرجل حراما فلا يعجبني أن يؤكل ماله ، وهذا على سبيل التحريم . 
وقال في رواية ابنه عبد الله    : لا يعجبني أكل ما ذبح للزهرة ولا الكواكب ولا الكنيسة ، وكل شيء ذبح لغير الله ، قال الله عز وجل : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به    } . 
فتأمل كيف قال : " لا يعجبني " فيما نص الله سبحانه على تحريمه ، واحتج هو أيضا بتحريم الله له في كتابه ، وقال في رواية  الأثرم    : أكره لحوم الجلالة وألبانها ، وقد صرح بالتحريم في رواية  حنبل  وغيره ، وقال في رواية ابنه عبد الله    : أكره أكل لحم الحية والعقرب ; لأن الحية لها ناب والعقرب لها حمة ولا يختلف مذهبه  [ ص: 33 ] في تحريمه ، وقال في رواية حرب    : إذا صاد الكلب من غير أن يرسل فلا يعجبني ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا أرسلت كلبك وسميت   } فقد أطلق لفظه " لا يعجبني " على ما هو حرام عنده . 
وقال في رواية جعفر بن محمد النسائي    : لا يعجبني المكحلة والمرود ، يعني من الفضة ، وقد صرح بالتحريم في عدة مواضع ، وهو مذهبه بلا خلاف ; وقال جعفر بن محمد  أيضا : سمعت  أبا عبد الله  سئل عن رجل قال لامرأته : كل امرأة أتزوجها أو جارية أشتريها للوطء وأنت حية فالجارية حرة والمرأة طالق ، قال : إن تزوج لم آمره أن يفارقها ، والعتق أخشى أن يلزمه ; لأنه مخالف للطلاق ، قيل له : يهب له رجل جارية ، قال : هذا طريق الحيلة ، وكرهه ، مع أن مذهبه تحريم الحيل وأنها لا تخلص من الأيمان ، ونص على كراهة البطة من جلود الحمر ، وقال : تكون ذكية ، ولا يختلف مذهبه في التحريم ، وسئل عن شعر الخنزير ، فقال : لا يعجبني ، وهذا على التحريم ، وقال : يكره القد من جلود الحمير ، ذكيا وغير ذكي ; لأنه لا يكون ذكيا ، وأكرهه لمن يعمل وللمستعمل ; وسئل عن رجل حلف لا ينتفع بكذا ، فباعه واشترى به غيره ، فكره ذلك ، وهذا عنده لا يجوز ; وسئل عن ألبان الأتن فكرهه وهو حرام عنده ، وسئل عن الخمر يتخذ خلا فقال : لا يعجبني ، وهذا على التحريم عنده ; وسئل عن بيع الماء ، فكرهه ، وهذا في أجوبته أكثر من أن يستقصى ، وكذلك غيره من الأئمة . 
وقد نص  محمد بن الحسن  أن كل مكروه فهو حرام ، إلا أنه لما لم يجد فيه نصا قاطعا لم يطلق عليه لفظ الحرام ; وروى محمد  أيضا عن  أبي حنيفة   وأبي يوسف  أنه إلى الحرام أقرب ; وقد قال في الجامع الكبير : يكره الشرب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء ، ومراده التحريم ; وكذلك قال  أبو يوسف   ومحمد    : يكره النوم على فرش الحرير والتوسد على وسائده ، ومرادهما التحريم . 
وقال  أبو حنيفة  وصاحباه : يكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير ، وقد صرح الأصحاب أنه حرام ، وقالوا : إن التحريم لما ثبت في حق الذكور ، وتحريم اللبس يحرم الإلباس ، كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها ، وكذلك قالوا : يكره منديل الحرير الذي يتمخط فيه ويتمسح من الوضوء ، ومرادهم التحريم ، وقالوا : يكره بيع العذرة ، ومرادهم التحريم ; وقالوا : يكره الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم إذا أضر بهم وضيق عليهم ، ومرادهم التحريم ; وقالوا : يكره بيع السلاح في أيام  [ ص: 34 ] الفتنة ، ومرادهم التحريم . 
وقال  أبو حنيفة    : يكره بيع أرض مكة  ، ومرادهم التحريم عندهم ; قالوا : ويكره اللعب بالشطرنج ، وهو حرام عندهم ; قالوا : ويكره أن يجعل الرجل في عنق عبده أو غيره طوق الحديد الذي يمنعه من التحرك ، وهو الغل ، وهو حرام ; وهذا كثير في كلامهم جدا . 
وأما أصحاب  مالك  فالمكروه عندهم مرتبة بين الحرام والمباح ، ولا يطلقون عليه اسم الجواز ، ويقولون : إن أكل كل ذي ناب من السباع مكروه غير مباح ; وقد قال  مالك  في كثير من أجوبته : أكره كذا ، وهو حرام ; فمنها أن  مالكا  نص على كراهة الشطرنج ، وهذا عند أكثر أصحابه على التحريم ، وحمله بعضهم على الكراهة التي هي دون التحريم . 
وقال  الشافعي  في اللعب بالشطرنج : إنه لهو شبه الباطل ، أكرهه ولا يتبين لي تحريمه فقد نص على كراهته ، وتوقف في تحريمه ; فلا يجوز أن ينسب إليه وإلى مذهبه أن اللعب بها جائز وأنه مباح ، فإنه لم يقل هذا ولا ما يدل عليه ; والحق أن يقال : إنه كرهها ، وتوقف في تحريمها ، فأين هذا من أن يقال : إن مذهبه جواز اللعب بها وإباحته ؟ ومن هذا أيضا أنه نص على كراهة تزوج الرجل بنته من ماء الزنا ، ولم يقل قط إنه مباح ولا جائز ، والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه الذي أجله الله به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم ، وأطلق لفظ الكراهة لأن الحرام يكرهه الله ورسوله ; وقد قال تعالى عقيب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه    } إلى قوله : { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما    } إلى قوله : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق    } إلى قوله : { ولا تقربوا الزنا    } إلى قوله : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق    } إلى قوله : { ولا تقربوا مال اليتيم    } إلى قوله : { ولا تقف ما ليس لك به علم    } إلى آخر الآيات ; ثم قال : { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها    } وفي الصحيح : { إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال   } . 
فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله ، ولكن المتأخرون اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم ، وتركه أرجح من فعله ، ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث ، فغلط في ذلك ، وأقبح غلطا منه من حمل لفظ الكراهة أو لفظ " لا ينبغي " في كلام الله ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث ، وقد اطرد في كلام الله ورسوله استعمال " لا ينبغي " في المحظور شرعا وقدرا وفي المستحيل الممتنع كقوله تعالى : { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا    } وقوله : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له    } وقوله : { وما  [ ص: 35 ] تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم    } { وقوله على لسان نبيه : كذبني ابن آدم  وما ينبغي له ، وشتمني ابن آدم  وما ينبغي له   } وقوله صلى الله عليه وسلم : { إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام   } وقوله صلى الله عليه وسلم في لباس الحرير : { لا ينبغي هذا للمتقين   } وأمثال ذلك 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					