[ الأمر بالرد دليل على أن الكتاب والسنة يشتملان على حكم كل شيء ] 
ومنها : أن قوله : { فإن تنازعتم في شيء    } نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين  دقه وجله ، جليه وخفيه ، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافيا لم يأمر بالرد إليه ; إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فضل النزاع . 
ومنها : أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته  [ ص: 40 ] 
[ الرد إلى الله والرسول  من موجبات الإيمان ] 
ومنها : أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه ، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ; ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين ، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم ، وأن عاقبته أحسن عاقبة ، ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه ، والطاغوت : كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ; فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله ; فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم [ عدلوا ] من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت ، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت ، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته ، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة - وهم الصحابة ومن تبعهم - ولا قصدوا قصدهم ، بل خالفوهم في الطريق والقصد معا ، ثم أخبر تعالى عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك ، ولم يستجيبوا للداعي ، ورضوا بحكم غيره ، ثم توعدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول وتحكيم غيره والتحاكم إليه كما قال تعالى : { فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم    } اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق ، أي بفعل ما يرضي الفريقين ويوفق بينهما كما يفعله من يروم التوفيق بين ما جاء به الرسول وبين ما خالفه ، ويزعم أنه بذلك محسن قاصد الإصلاح والتوفيق ، والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي ; فرخص الإيمان في هذا الحرب لا في التوفيق ، وبالله التوفيق . 
ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه ، ولم يكتف منهم أيضا بذلك حتى يسلموا تسليما ، وينقادوا انقيادا . 
وقال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم    } فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله ، ومن تخير بعد ذلك فقد ضل ضلالا مبينا . 
 [ ص: 41 ] معنى التقدم بين يدي الله ورسوله    ] 
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم    } أي لا تقولوا حتى يقول ، ولا تأمروا حتى يأمر ، ولا تفتوا حتى يفتي ، ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه ، روى علي بن أبي طلحة  عن  ابن عباس  رضي الله عنهما : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة ، وروى  العوفي  عنه قال : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه . 
والقول الجامع في معنى الآية لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون    } فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه ؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم . 
[ ينزع العلم بموت العلماء    ] 
وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه    } فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه فأولى أن يكون من لوازمه أن لا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه ، وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه . 
وفي صحيح  البخاري  من حديث  أبي الأسود  عن  عروة بن الزبير  قال : حج علينا  عبد الله بن عمرو بن العاص  فسمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعا ، ولكن ينزعه مع قبض العلماء بعلمهم ، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم ، فيضلون ويضلون   } . 
وقال  وكيع    : حدثنا  هشام بن عروة  عن أبيه عن  عبد الله بن عمرو بن العاص  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا ينزع الله العلم من صدور الرجال ، ولكن ينزع العلم بموت العلماء ، فإذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فقالوا بالرأي ، فضلوا وأضلوا   } وفي الصحيحين من حديث  عروة بن الزبير  قال : قالت  عائشة    : يا ابن أختي بلغني أن  عبد الله بن عمرو  مار بنا إلى الحج ، فالقه فاسأله فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا ، قال : فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عروة    : فكان فيما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله لا  [ ص: 42 ] ينزع العلم من الناس انتزاعا ، ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم ، ويبقى في الناس رءوس جهال يفتونهم بغير علم ، فيضلون ويضلون   } قال عروة    : فلما حدثت  عائشة  بذلك أعظمت ذلك وأنكرته ، قالت : أحدثك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا ؟ قال عروة    : نعم ، حتى إذا كان عام قابل قالت لي : إن  ابن عمرو  قد قدم فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم ، قال : فلقيته فسألته فذكره لي نحو ما حدثني به في المرة الأولى ، قال عروة    : فلما أخبرتها بذلك قالت : ما أحسبه إلا وقد صدق ، أراه لم يزد فيه شيئا ولم ينقص . 
وقال  البخاري  في بعض طرقه { فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون   } وقال : فقالت  عائشة    : والله لقد حفظ عبد الله    ; وقال  نعيم بن حماد    : ثنا  ابن المبارك  ثنا  عيسى بن يونس  عن جرير بن عثمان الرحبي  ثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير  عن أبيه عن  عوف بن مالك الأشجعي  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم ، يحرمون به ما أحل الله ويحلون ما حرم الله   } قال  أبو عمر بن عبد البر    : هذا هو القياس على غير أصل ، والكلام في الدين بالخرص والظن ، ألا ترى إلى قوله في الحديث : { يحلون الحرام ويحرمون الحلال   } ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله ، والحرام ما في كتاب الله وسنة رسوله تحريمه ، فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه بغير علم ، وقاس برأيه ما خرج منه عن السنة ; فهذا الذي قاس الأمور برأيه فضل وأضل ، ومن رد الفروع إلى أصولها فلم يقل برأيه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					