فصل
[ ] طواف الحائض بالبيت
المثال السادس : { } فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان ، ولم يفرق بين حال القدرة والعجز ، ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك ، وتمسك بظاهر النص ، ورأى منافاة الحيض للطواف كمنافاته للصلاة والصيام ; إذ نهي الحائض عن الجميع سواء ، ومنافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته لعبادة الصلاة ، ونازعهم في ذلك فريقان ; أحدهما : صحح الطواف مع الحيض ، ولم يجعلوا الحيض مانعا من صحته ، بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقوله أن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر ، وقال : [ ص: 20 ] اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت وأصحابه أبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما عنه ، وهؤلاء لم يجعلوا ارتباط الطهارة بالطواف كارتباطها بالصلاة ارتباط الشرط بالمشروط ، بل جعلوها واجبة من واجباته ، وارتباطها به كارتباط واجبات الحج به يصح فعله مع الإخلال بها ويجبرها الدم ، والفريق الثاني جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة وجوب السترة واشتراطها ، بل بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز ، قالوا : وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها له أعظم من اشتراطها للصلاة ، فإذا سقطت بالعجز عنها فسقوطها في الطواف بالعجز عنها أولى وأحرى ، قالوا : وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تحتبس أمراء الحج للحيض حتى يطهرن ويطفن ، ولهذا { وأحمد صفية وقد حاضت أحابستنا هي ؟ قالوا : إنها قد أفاضت ، قال فلتنفر إذا } وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها ، فأما في هذه الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيض فلا تخلو من ثمانية أقسام ; أحدها أن يقال لها : أقيمي قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن بمكة وإن رحل الركب حتى تطهري وتطوفي ، وفي هذا من الفساد وتعريضها للمقام وحدها في بلد الغربة مع لحوق غاية الضرر لها ما فيه ; الثاني أن يقال : يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه .
الثالث : أن يقال : إذا علمت أو خشيت مجيء الحيض في وقته جاز لها تقديمه على وقته ; الرابع أن يقال : إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج وأنها إذا حجت أصابها الحيض هناك سقط عنها فرضه حتى تصير آيسة وينقطع حيضها بالكلية ، الخامس أن يقال : بل تحج فإذا حاضت ولم يمكنها الطواف ولا المقام رجعت وهي على إحرامها تمتنع من النكاح ووطء الزوج حتى تعود إلى البيت فتطوف وهي طاهرة ، ولو كان بينها وبينه مسافة سنين ، ثم إذا أصابها الحيض في سنة العود رجعت كما هي ، ولا تزال كذلك كل عام حتى يصادفها عام تطهر فيه ; السادس أن يقال : بل تتحلل إذا عجزت عن المقام حتى تطهر كما يتحلل المحصر ، مع بقاء الحج في ذمتها ، فمتى قدرت على الحج لزمها ; ثم إذا أصابها [ ص: 21 ] ذلك أيضا تحللت ، وهكذا أبدا حتى يمكنها الطواف طاهرا ; السابع أن يقال : يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها كالمعضوب ، وقد أجزأ عنها الحج ، وإن انقطع حيضها بعد ذلك ; الثامن أن يقال : بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج .
ويسقط عنها ما تعجز عنه من الشروط والواجبات كما يسقط عنها طواف الوداع بالنص ، وكما يسقط عنها فرض السترة إذا شلحتها العبيد أو غيرهم ، وكما يسقط عنها فرض طهارة الجنب إذا عجزت عنها لعدم الماء أو مرض بها ، وكما يسقط فرض اشتراط طهارة مكان الطواف والسعي إذا عرض فيه نجاسة تتعذر إزالتها ، وكما يسقط شرط استقبال القبلة في الصلاة إذا عجز عنه ، وكما يسقط فرض القيام والقراءة والركوع والسجود إذا عجز عنه المصلي ، وكما يسقط فرض الصوم عن العاجز عنه إلى بدله وهو الإطعام ، ونظائر ذلك من الواجبات والشروط التي تسقط بالعجز عنها إما إلى بدل أو مطلقا ; فهذه ثمانية أقسام لا مزيد عليها ، ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوى هذا القسم الثامن ; فإن القسم الأول وإن قاله من قال من الفقهاء فلا يتوجه ههنا ; لأن هذا الذي قالوه متوجه فيمن أمكنها الطواف ولم تطف ، والكلام في امرأة لا يمكنها الطواف ولا المقام لأجله ، وكلام الأئمة والفقهاء هو مطلق كما يتكلمون في نظائره ، ولم يتعرضوا لمثل هذه الصور التي عمت بها البلوى ، ولم يكن ذلك في زمن الأئمة ، بل قد ذكروا أن المكري يلزمه المقام والاحتباس عليها لتطهر ثم تطوف ، فإنه كان ممكنا بل واقعا في زمنهم ، فأفتوا ، بأنها لا تطوف حتى تطهر لتمكنها من ذلك ، وهذا لا نزاع فيه ولا إشكال ، فأما في هذه الأزمان فغير ممكن .
وإيجاب سفرين كاملين في الحج من غير تفريط من الحاج ولا سبب صدر منه يتضمن إيجاب حجتين إلى البيت ، والله تعالى إنما أوجب حجة واحدة ، بخلاف من أفسد الحج فإنه قد فرط بفعل المحظور ، وبخلاف من ترك طواف الزيارة أو الوقوف بعرفة فإنه لم يفعل ما يتم حجته ، وأما هذه فلم تفرط ولم تترك ما أمرت به فإنها لم تؤمر بما لا تقدر عليه ، وقد فعلت ما تقدر عليه ; فهي بمنزلة ، فإنه لا إعادة عليه في أصح الأقوال ، وأيضا فهذه قد لا يمكنها السفر مرة ثانية فإذا قيل إنها تبقى محرمة إلى أن تموت ، فهذا ضرر لا يكون مثله في دين الإسلام ، بل يعلم بالضرورة أن الشريعة لا تأتي به . الجنب إذا عجز عن الطهارة الأصلية والبدلية وصلى على حسب حاله
فصل
وأما التقدير الثاني - وهو سقوط طواف الإفاضة - فهذا مع أنه لا قائل به فلا يمكن القول به ; فإنه ركن الحج الأعظم ، وهو الركن المقصود لذاته ، والوقوف بعرفة وتوابعه مقدمات له . [ ص: 22 ]
فصل
وأما التقدير الثالث - وهو أن تقدم طواف الإفاضة على وقته إذا خشيت الحيض في وقته - فهذا لا يعلم به قائل ، والقول به كالقول بتقديم الوقوف بعرفة على يوم عرفة ، وكلاهما مما لا سبيل إليه .
فصل
وأما التقدير الرابع - وهو أن يقال يسقط عنها فرض الحج إذا خشيت ذلك - فهذا وإن كان أفقه مما قبله من التقديرات فإن الحج يسقط لما هو دون هذا من الضرر - كما لو كان بالطريق أو بمكة خوف ، أو أخذ خفارة مجحفة أو غير مجحفة على أحد القولين ، أو لم يكن لها محرم - ولكنه ممتنع لوجهين ; أحدهما : أن لازمه سقوط الحج عن كثير من النساء أو أكثرهن ; فإنهن يخفن من الحيض وخروج الركب قبل الطهر ، وهذا باطل ; فإن العبادات لا تسقط بالعجز عن بعض شرائطها ولا عن بعض أركانها ، وغاية هذه أن تكون قد عجزت عن شرط أو ركن ، وهذا لا يسقط المقدور عليه ، قال الله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال صلى الله عليه وسلم : { } ولهذا وجبت الصلاة بحسب الإمكان ، وما عجز عنه من فروضها أو شروطها سقط عنه ; إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فعله راكبا اتفاقا ، والصبي يفعل عنه وليه ما يعجز عنه . والطواف والسعي إذا عجز عنه ماشيا
الوجه الثاني : أن يقال في الكلام فيمن : فما يقول صاحب هذا التقدير حينئذ ؟ فإما أن يقول : تبقى محرمة حتى تعود إلى البيت ، أو يقول : تتحلل كالمحصر وبالجملة فالقول بعدم وجوب تكلفت وحجت وأصابها هذا العذر لا يعلم به قائل ، ولا تقتضيه الشريعة ; فإنها لا تسقط مصلحة الحج التي هي من أعظم المصالح لأجل العجز عن أمر غايته أن يكون واجبا في الحج أو شرطا فيه ; فأصول الشريعة تبطل هذا القول . الحج على من تخاف الحيض
فصل
وأما التقدير الخامس - وهي أن ترجع وهي على إحرامها ممتنعة من النكاح والوطء إلى أن تعود في العام المقبل ، ثم إذا أصابها الحيض رجعت كذلك ، وهكذا كل عام - فمما ترده أصول الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة والإحسان ; فإن الله لم يجعل على الأمة على مثل هذا الحرج ، ولا ما هو قريب منه .