وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم كالجاد بها ، مع أنه لم يقصد حقائق هذه العقود ، وأبلغ من هذا قوله صلى الله عليه وسلم : { الهازل بالنكاح والطلاق والرجعة } فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بالظاهر وإن كان في نفس الأمر لا يحل للمحكوم له ما حكم له به ، وفي هذا كله دلالة على إلغاء المقاصد والنيات في العقود ، وإبطال سد الذرائع ، واتباع ظواهر عقود الناس وألفاظهم ، وبالله التوفيق . [ ص: 86 ] إنما أقضي بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار
[ القول الفصل في هذه المسألة ]
فانظر ملتقى البحرين ، ومعترك الفريقين ، فقد أبرز كل منهما حجته ، وخاض بحر العلم فبلغ منه لجته ، وأدلى من الحجج والبراهين بما لا يدفع ، وقال ما هو حقيق بأن يقول له أهل العلم قل يسمع ، وحجج الله لا تتعارض ، وأدلة الشرع لا تتناقض ، والحق يصدق بعضه بعضا ، ولا يقبل معارضة ولا نقصا ، وحرام على المقلد المتعصب أن يكون من أهل هذا الطراز الأول ، أو يكون على قوله وبحثه إذا حقت الحقائق المعول ، فليجرب المدعي ما ليس له والمدعي في قوم ليس منهم نفسه وعلمه وما حصله في الحكم بين الفريقين ، والقضاء للفصل بين المتغالبين ، وليبطل الحجج والأدلة من أحد الجانبين ، ليسلم له قول إحدى الطائفتين ، وإلا فيلزم حده ، ولا يتعدى طوره ، ولا يمد إلى العلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باعا يقصر عن الوصول إليه ، ولا يتجر بنقد زائف لا يروج عليه ، ولا يتمكن من الفصل بين المقالين إلا من تجرد لله مسافرا بعزمه وهمته إلى مطلع الوحي ، منزلا نفسه منزلة من يتلقاه غضا طريا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليه آراء الرجال ولا يعرضه عليها ، ويحاكمها إليه ولا يحاكمه إليها ، فنقول وبالله التوفيق :
[ ] وضعت الألفاظ لتعريف ما في النفس
إن الله تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفا ودلالة على ما في نفوسهم ، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئا عرفه بمراده وما في نفسه بلفظه ، ورتب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ ، ولم يرتب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول ، ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يرد معانيها ولم يحط بها علما ، بل تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم به ، وتجاوز لها عما تكلمت به مخطئة أو ناسية أو مكرهة أو غير عالمة به إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به أو قاصدة إليه ، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم . هذه قاعدة الشريعة ، وهي من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته ، فإن خواطر القلوب وإرادة النفوس لا تدخل تحت الاختيار ، فلو ترتبت عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة ، ورحمة الله تعالى وحكمته تأبى ذلك ، والغلط والنسيان والسهو وسبق اللسان بما لا يريده العبد بل يريد خلافه والتكلم به مكرها وغير عارف لمقتضاه من لوازم البشرية لا يكاد ينفك الإنسان من شيء منه ; فلو رتب عليه الحكم لحرجت الأمة وأصابها غاية التعب والمشقة ; فرفع عنها المؤاخذة بذلك كله حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر كما تقدمت شواهده