فصل [ تشرع اليمين من جهة أقوى المتداعيين ]
والذي جاءت به الشريعة أن ، فأي الخصمين ترجح جانبه جعلت اليمين من جهته ، وهذا مذهب الجمهور كأهل اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعيين المدينة وفقهاء الحديث كالإمام أحمد والشافعي وغيرهم ; وأما أهل ومالك العراق فلا يحلفون إلا المدعى عليه وحده ، فلا يجعلون اليمين إلا من جانبه فقط ، وهذا قول وأصحابه ; والجمهور يقولون : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالشاهد واليمين ، وثبت عنه أنه عرض الأيمان في القسامة على المدعين أولا ، فلما أبوا جعلها من جانب المدعى عليهم ، وقد جعل الله سبحانه أيمان اللعان من جانب الزوج أولا ، فإذا نكلت المرأة عن معارضة أيمانه بأيمانها وجب عليها العذاب بالحد ، وهو العذاب المذكور في قوله : { أبي حنيفة وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } فإن المدعي لما ترجح جانبه بالشاهد الواحد شرعت اليمين من جهته ، وكذلك أولياء الدم ترجح جانبهم باللوث فشرعت اليمين من جهتهم وأكدت بالعدد تعظيما لخطر النفس ، وكذلك الزوج في اللعان جانبه أرجح من جانب المرأة قطعا ، فإن إقدامه على إتلاف فراشه ، ورميها بالفاحشة على رءوس الأشهاد ، وتعريض نفسه لعقوبة الدنيا والآخرة ، وفضيحة أهله ونفسه على رءوس الأشهاد ، مما يأباه طباع العقلاء ، وتنفر عنه نفوسهم ، لولا أن الزوجة اضطرته بما رآه وتيقنه منها إلى ذلك ; فجانبه أقوى من جانب المرأة قطعا ، فشرعت اليمين من جانبه ، ولهذا كان القتل في القسامة واللعان وهو قول أهل المدينة ; فأما فقهاء العراق فلا يقتلون لا بهذا ولا بهذا ، يقتل بالقسامة دون اللعان ، [ ص: 80 ] وأحمد يقتل باللعان دون القسامة ، وليس في شيء من هذا ما يعارض الحديث الصحيح ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : { والشافعي } فإن هذا إذا لم يكن مع المدعي إلا مجرد الدعوى ، فإنه لا يقضي له بمجرد الدعوى ، فأما إذا ترجح جانبه بشاهد أو لوث أو غيره لم يقض له بمجرد دعواه ، بل بالشاهد المجتمع من ترجيح جانبه ومن اليمين ; وقد حكم لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه سليمان بن داود عليه السلام لإحدى المرأتين بالولد لترجح جانبها بالشفقة على الولد وإيثارها لحياته ورضي الأخرى بقتله ، ولم يلتفت إلى إقرارها للأخرى به .
وقوله : " هو ابنها " ولهذا كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث " " ليستبين به الحق ، ثم ترجم ترجمة أخرى أحسن من هذه وأفقه فقال : " التوسعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل " فهكذا يكون فهم الأئمة من النصوص واستنباط الأحكام التي تشهد العقول والفطر بها منها ; ولعمر الله إن هذا العلم النافع لا خرص الآراء وتخمين الظنون . الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم له إذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به
فإن قيل : ففي القسامة يقبل مجرد أيمان المدعين ، ولا تجعل أيمان المدعى عليهم بعد أيمانهم دافعة للقتل ; وفي اللعان ليس كذلك ، بل إذا حلف الزوج مكنت المرأة أن تدفع عن نفسها بأيمانها ، ولا تقتل بمجرد أيمان الزوج ، فما الفرق ؟ قيل : هذا من كمال الشريعة وتمام عدلها ومحاسنها فإن المحلوف عليه في القسامة حق لآدمي ، وهو استحقاق الدم ، وقد جعلت الأيمان المكررة بينة تامة مع اللوث ، فإذا قامت البينة لم يلتفت إلى أيمان المدعى عليه ، وفي اللعان المحلوف عليه حق لله وهو حد الزنا ، ولم يشهد به أربعة شهود ، وإنما جعل الزوج أن يحلف أيمانا مكررة ومؤكدة باللعنة أنها جنت على فراشه وأفسدته ، فليس له شاهد إلا نفسه ، وهي شهادة ضعيفة ، فمكنت المرأة أن تعارضها بأيمان مكررة مثلها ، فإذا نكلت ولم تعارضها صارت أيمان الزوج مع نكولها بينة قوية لا معارض لها ; ولهذا كان الأيمان أربعة لتقوم مقام الشهود الأربعة ، وأكدت بالخامسة هي الدعاء على نفسه باللعنة إن كان كاذبا ، ففي القسامة جعل اللوث وهو الأمارة الظاهرة الدالة على أن المدعى عليهم قتلوه شاهدا ، وجعلت الخمسين يمينا شاهدا آخر ، وفي اللعان جعلت أيمان الزوج كشاهد ونكولها كشاهد آخر .
[ لا يتوقف الحكم على شهادة ذكرين أصلا ] .
والمقصود أن الشارع لم يقف الحكم في حفظ الحقوق ألبتة على ، لا في الدماء ولا في الأموال ولا في الفروج ولا في الحدود ، بل قد حد الخلفاء الراشدون [ ص: 81 ] والصحابة رضي الله عنهم في الزنا بالحبل ، وفي الخمر بالرائحة والقيء ، وكذلك إذا وجد المسروق عند السارق كان أولى بالحد من ظهور الحبل والرائحة في الخمر ، وكل ما يمكن أن يقال في ظهور المسروق أمكن أن يقال في الحبل والرائحة ، بل أولى ، فإن الشبهة التي تعرض في الحبل من الإكراه ووطء الشبهة ; وفي الرائحة لا يعرض مثلها في ظهور العين المسروقة ، والخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله عنهم لم يلتفتوا إلى هذه الشبهة التي تجويز غلط الشاهد ووهمه وكذبه أظهر منها بكثير ، فلو عطل الحد بها لكان تعطيله بالشبهة التي تمكن في شهادة الشاهدين أولى ، فهذا محض الفقه والاعتبار ومصالح العباد ، وهو من أعظم الأدلة على جلالة فقه الصحابة وعظمته ومطابقته لمصالح العباد ، وحكمة الرب وشرعه ، وأن التفاوت الذي بين أقوالهم وأقوال من بعدهم كالتفاوت الذي بين القائلين . شهادة ذكرين
[ لم يرد الشارع ] خبر العدل
والمقصود أن الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله لم يرد خبر العدل قط ، لا في رواية ولا في شهادة ، بل قبل خبر العدل الواحد في كل موضع أخبر به ، كما قبل شهادته بالقتيل ، وقبل شهادة لأبي قتادة خزيمة وحده ، وقبل شهادة الأعرابي وحده على رؤية هلال رمضان ، وقبل شهادة الأمة السوداء وحدها على الرضاعة ، وقبل خبر تميم وحده وهو خبر عن أمر حسي شاهده ورآه فقبله ورواه عنه ، ولا فرق بينه وبين الشهادة فإن كلا منهما عن أمر مستند إلى الحس والمشاهدة ، فتميم شهد بما رآه وعاينه ، وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فصدقه وقبل خبره ، فأي فرق بين أن يشهد العدل الواحد على أمر رآه وعاينه يتعلق بمشهود له وعليه وبين أن يخبر بما رآه وعاينه مما يتعلق بالعموم ؟ وقد أجمع المسلمون على ، وهو شهادة منه بدخول الوقت ، وخبر عنه يتعلق بالمخبر وغيره ، وكذلك أجمعوا على قبول أذان المؤذن الواحد وهي خبر عن حكم شرعي يعم المستفتي وغيره . قبول فتوى المفتي الواحد
[ جانب التحمل غير جانب الثبوت ]
وسر المسألة أن لا يلزم من الأمر بالتعدد في جانب التحمل وحفظ الحقوق الأمر بالتعدد في جانب الحكم والثبوت ; فالخبر الصادق لا تأتي الشريعة برده أبدا ، وقد ذم الله في كتابه من كذب بالحق ، ورد الخبر الصادق تكذيب بالحق وكذلك الدلالة الظاهرة لا ترد إلا بما هو مثلها أو أقوى منها ، والله سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق ، بل بالتثبيت والتبيين ، فإن ظهرت الأدلة على صدقه قبل خبره ، وإن ظهرت الأدلة على كذبه رد خبره ، وإن لم يتبين واحد من الأمرين وقف خبره ، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر الدليل المشترك الذي استأجره ليدله [ ص: 82 ] على طريق المدينة في هجرته لما ظهر له صدقه وأمانته ; فعلى المسلم أن يتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قبول الحق ممن جاء به من ولي وعدو وحبيب وبغيض وبر وفاجر ، ويرد الباطل على من قاله كائنا من كان ، قال : ثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد ابن عجلان عن ابن شهاب أن كان يقول في مجلسه كل يوم قلما يخطئه أن يقول ذلك : الله حكم قسط ، هلك المرتابون ، إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ، ويفتح فيها القرآن ، حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر ، فيوشك أحدهم أن يقول : قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره ، فإياكم وما ابتدع ، فإن كل بدعة ضلالة ، وإياكم وزيغة الحكيم ; فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة ، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق ، فتلقوا الحق عن من جاء به ، فإن على الحق نورا ، قالوا : وكيف زيغة الحكيم ؟ قال : هي الكلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذا ، فاحذروا زيغته ، ولا يصدنكم عنه ، فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق ، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة . معاذ بن جبل
والمقصود أن ، والمطلوب منه ومن كل من يحكم بين اثنين أن يعلم ما يقع ثم يحكم فيه بما يجب ، فالأول مداره على الصدق والثاني مداره على العدل ، وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا والله عليم حكيم . الحاكم بالحجة التي ترجح الحق إذا لم يعارضها مثلها