فصل قال أرباب الحيل : قال الله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } والحيل مخارج من المضائق .
والجواب إنما يتبين بذكر قاعدة في أقسام الحيل ومراتبها ، فنقول وبالله التوفيق هي أقسام .
[ القسم الأول من الحيل طرق يتوصل بها إلى ما هو حرام ]
القسم الأول : ، بحيث لا يحل بمثل ذلك السبب بحال ، فمتى كان المقصود بها محرم في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين ، وذلك كالحيل على أخذ أموال الناس وظلمهم في نفوسهم وسفك دمائهم وإبطال حقوقهم وإفساد ذات بينهم ، وهي من جنس حيل الشياطين على إغواء بني الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى ما هو محرم في نفسه آدم بكل طريق ، وهم يتحيلون عليهم ليوقعوهم في واحدة من ستة ولا بد ; فيتحيلون عليهم بكل طريق أن يوقعوهم في الكفر والنفاق على اختلاف أنواعه ، فإذا عملت حيلهم في ذلك قرت عيونهم ، فإن عجزت حيلهم عن من صحت فطرته وتلاها شاهد الإيمان من ربه بالوحي الذي أنزله على رسوله أعملوا الحيلة في إلقائه في البدعة على اختلاف أنواعها وقبول القلب لها وتهيئته واستعداده .
فإن تمت حيلهم كان ذلك أحب إليهم من المعصية ، وإن كانت كبيرة ، ثم ينظرون في حال من استجاب لهم إلى البدعة ; فإن كان مطاعا متبوعا في الناس أمروه بالزهد والتعبد ومحاسن الأخلاق والشيم ، ثم أطاروا له الثناء بين الناس ليصطادوا عليه الجهال ومن لا علم عنده بالسنة ، وإن لم يكن كذلك جعلوا بدعته عونا له على ظلمه أهل السنة وأذاهم والنيل منهم ، وزينوا له أن هذا انتصار لما هم عليه من الحق ، فإن أعجزتهم هذه الحيلة ومن الله على العبد بتحكيم السنة ومعرفتها والتمييز بينها وبين البدعة ألقوه في الكبائر ، وزينوا له فعلها بكل طريق ، وقالوا له : أنت على السنة ، وفساق أهل السنة أولياء الله ، وعباد أهل البدعة أعداء الله ، وقبور فساق أهل السنة روضة من رياض الجنة ، وقبور عباد أهل البدع حفرة من حفر النار ، والتمسك بالسنة يكفر الكبائر ، كما أن مخالفة السنة تحبط الحسنات ، وأهل السنة إن قعدت بهم أعمالهم قامت بهم عقائدهم ، وأهل البدع إذا قامت بهم أعمالهم قعدت بهم عقائدهم ، وأهل السنة هم الذين أحسنوا [ ص: 256 ] الظن بربهم إذ وصفوه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ووصفوه بكل كمال وجلال ونزهوه عن كل نقص ، والله تعالى عند ظن عبده به ، وأهل البدع هم الذين يظنون بربهم ظن السوء ; إذ يعطلونه عن صفات كماله وينزهونه عنها ، وإذا عطلوه عنها لزم اتصافه بأضدادها ضرورة ; ولهذا قال الله تعالى في حق من أنكر صفة واحدة من صفاته وهي صفة العلم ببعض الجزئيات : { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } وأخبرهم عن الظانين بالله ظن السوء أن عليهم دائرة السوء ، وغضب الله عليهم ، ولعنهم ، وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ، فلم يتوعد بالعقاب أحدا أعظم ممن ظن به ظن السوء ، وأنت لا تظن به ظن السوء ، فما لك وللعقاب ؟ وأمثال هذا من الحق الذي يجعلونه وصلة لهم ، وحيلة إلى الاستهانة بالكبائر ، وأخذه الأمن لنفسه .
وهذه حيلة لا ينجو منها إلا الراسخ في العلم ، العارف بأسماء الله وصفاته ، فإنه كلما كان بالله أعرف كان له أشد خشية ، وكلما كان به أجهل كان أشد غرورا به وأقل خشية .
فإن أعجزتهم هذه الحيلة وعظم وقار الله في قلب العبد هونوا عليه الصغائر ، وقالوا له : إنها تقع مكفرة باجتناب الكبائر حتى كأنها لم تكن ، وربما منوه أنه إذا تاب منها - كبائر كانت أو صغائر - كتب له مكان كل سيئة حسنة ، فيقولون له : كثر منها ما استطعت ، ثم اربح مكان كل سيئة حسنة بالتوبة ، ولو قبل الموت بساعة ; فإن أعجزتهم هذه الحيلة وخلص الله عبده منها نقلوه إلى الفضول من أنواع المباحات والتوسع فيها ، وقالوا له : قد كان لداود مائة امرأة إلا واحدة ثم أراد تكميلها بالمائة ، وكان لسليمان ابنه مائة امرأة ، وكان للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف من الأموال ما هو معروف ، وكان وعثمان بن عفان لعبد الله بن المبارك من الدنيا وسعة المال ما لا يجهل ، وينسوه ما كان لهؤلاء من الفضل ، وأنهم لم ينقطعوا عن الله بدنياهم ، بل ساروا بها إليه ، فكانت طريقا لهم إلى الله . والليث بن سعد
فإن أعجزتهم هذه الحيلة - بأن تفتح بصيرة قلب العبد حتى كأنه يشاهد بها الآخرة وما أعد الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته ، فأخذ حذره ، وتأهب للقاء ربه ، واستقصر مدة هذه الحياة الدنيا في جنب الحياة الباقية الدائمة - نقلوه إلى الطاعات المفضولة الصغيرة الثواب ليشغلوه بها عن الطاعات الفاضلة الكثيرة الثواب ، فيعمل حيلته في تركه كل طاعة كبيرة إلى ما هو دونها ، فيعمل حيلته في تفويت الفضيلة عليه ; فإن أعجزتهم هذه الحيلة - وهيهات - لم يبق لهم إلا حيلة واحدة ، وهي تسليط أهل الباطل والبدع والظلمة عليه يؤذونه ، وينفرون الناس عنه ، ويمنعونهم من الاقتداء به ; ليفوتوا عليه مصلحة الدعوة إلى الله وعليهم مصلحة الإجابة . [ ص: 257 ] فهذه مجامع أنواع حيل الشيطان ، ولا يحصي أفرادها إلا الله ، ومن له مسكة من العقل يعرف الحيلة التي تمت عليه من هذه الحيل ، فإن كانت له همة إلى التخلص منها ، وإلا فيسأل من تمت عليه ، والله المستعان .
[ من حيل شياطين الإنس ]
وهذه الحيل من شياطين الجن نظير حيل شياطين الإنس المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق ويتوصلوا به إلى أغراضهم الفاسدة في الأمور الدينية والدنيوية وذلك كحيل القرامطة الباطنية على إفساد الشرائع ، وحيل الرهبان على أشباه الحمير من عابد الصليب بما يموهون به عليهم من المخاريق والحيل كالنور المصنوع وغيره مما هو معروف عند الناس ، وكحيل أرباب الإشارات من الإذن والتسيير والتغيير وإمساك الحيات ودخول النار في الدنيا قبل الآخرة ، وأمثال ذلك من حيل أشباه النصارى التي تروج على أشباه الأنعام ، وكحيل أرباب الدك وخفة اليد التي تخفى على الناظرين أسبابها ولا يتفطنون لها ، وكحيل السحرة على اختلاف أنواع السحر ; فإن سحر البيان هو من أنواع التحيل : إما لكونه بلغ من اللطف والحسن إلى حد استمالة القلوب فأشبه السحر من هذا الوجه ، وإما لكون القادر على البيان يكون قادرا على تحسين القبيح وتقبيح الحسن فهو أيضا يشبه السحر من هذا الوجه أيضا .
وكذلك سحر الوهم أيضا هو حيلة وهمية ، والواقع شاهد بتأثير الوهم والإيهام ، ألا ترى أن الخشبة التي يتمكن الإنسان من المشي عليها إذا كانت قريبة من الأرض لا يمكن المشي عليها إذا كانت على مهواة بعيدة القعر ؟ والأطباء تنهى صاحب الرعاف عن النظر إلى الشيء الأحمر ، وتنهى المصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران ، فإن النفوس خلقت مطية الأوهام ، والطبيعة فعالة ، والأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية .
وكذلك السحر بالاستعانة بالأرواح الخبيثة إنما هو بالتحيل على استخدامها بالإشراك بها والاتصاف بهيئاتها الخبيثة ; ولهذا لا يعمل السحر إلا مع الأنفس الخبيثة المناسبة لتلك الأرواح ، وكلما كانت النفس أخبث كان سحرها أقوى ، وكذلك سحر التمزيجات - وهو أقوى ما يكون من السحر - أن يمزج بين القوى النفسانية الخبيثة الفعالة والقوى الطبيعية المنفعلة ، والمقصود أن السحر من أعظم أنواع الحيل التي [ ص: 258 ] ينال بها الساحر غرضه ، وحيل الساحر من أضعف الحيل وأقواها ، ولكن لا تؤثر تأثيرا مستقرا إلا في الأنفس الباطلة المنفعلة للشهوات الضعيفة تعلقها بفاطر الأرض والسموات المنقطعة عن التوجه إليه والإقبال عليه ; فهذه النفوس محل تأثير السحر ، وكحيل أرباب الملاهي والطرب على استمالة النفوس إلى محبة الصور والوصول إلى الالتذاذ بها ; فحيلة السماع الشيطاني على ذلك من أدنى الحيل عليه ، حتى قيل : أول ما وقع الزنا في العالم فإنما كان بحيلة اليراع والغناء ، لما أراد الشيطان ذلك لم يجد عليه حيلة أدنى من الملاهي .
وكحيل اللصوص والسراق على أخذ أموال الناس ، وهم أنواع لا تحصى ; فمنهم السراق بأيديهم ، ومنهم السراق بأقلامهم ، ومنهم السراق بأمانتهم ، ومنهم السراق بما يظهرونه من الدين والفقر والصلاح والزهد وهم في الباطن بخلافه ، ومنهم السراق بمكرهم وخداعهم وغشهم ، وبالجملة فحيل هذا الضرب من الناس من أكثر الحيل ، وتليها حيل عشاق الصور على الوصول إلى أغراضهم فإنها تقع في الغالب خفية ، وإنما تتم غالبا على النفوس القابلة المنفعلة الشهوانية ، وكحيل التتار التي ملكوا بها البلاد وقهروا بها العباد وسفكوا بها الدماء واستباحوا بها الأموال ، وكحيل اليهود وإخوانهم من الرافضة فإنهم بيت المكر والاحتيال ، ولهذا ضربت على الطائفتين الذلة ، وهذه سنة الله في كل مخادع محتال بالباطل .