[ ] حيلة في تجويز نظر الواقف على وقفه
المثال السادس والأربعون : إذا ، صح ذلك عند الجمهور ، وهو اتفاق من الصحابة ; فإن وقف وقفا وجعل النظر فيه لنفسه مدة حياته ثم من بعده لغيره رضي الله عنه كان يلي صدقته ، وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة ، { عمر والنبي صلى الله عليه وسلم لما أشار على بوقف أرضه لم يقل له لا يصح ذلك حتى تخرجها عن يدك ولا تلي نظرها عمر } وأي غرض للشارع في ذلك ؟ وأي مصلحة للواقف أو للموقوف عليه ؟ بل المصلحة خلاف ذلك ; لأنه أخبر بماله ، وأقوم بعمارته ومصالحه وحفظه من الغريب الذي ليست خبرته وشفقته كخبرة صاحبه وشفقته ، ويكفي في صحة الوقف إخراجه عن ملكه ، وثبوت نظره ويده عليه كثبوت نظر الأجنبي ويده ، ولا سيما إن كان متبرعا ، فأي مصلحة في أن يقال له : " لا يصح وقفك حتى تجعله في يد من لست على ثقة من حفظه والقيام بمصالحه وإخراج نظرك عنه ؟ "
فإن قيل : إخراجه لله يقتضي رفع يده عنه بالكلية كالعتق .
قيل : بالعتق خرج العبد عن أن يكون مالا ، وصار محررا محضا ، فلا تثبت عليه يد أحد . وأما الوقف فإنه لا بد من ثبوت اليد عليه لحفظه والقيام بمصالحه ، وأحق ما يثبت عليه يد أشفق الناس عليه وأقومهم بمصالحه ، وثبوت يده ونظره لا ينافي وقفه لله ، فإنه وقفه لله وجعل نظره عليه ويده لله فكلاهما قربة وطاعة ، فكيف يحرم ثواب هذه القربة ويقال له : لا يصح لك قربة الوقف إلا بحرمان قربة النظر والقيام بمصالح الوقف ؟ فأي نص وأي قياس وأي مصلحة وأي غرض للشارع أوجب ذلك ؟ بل أي صاحب قال ذلك ؟ فإن احتاج الواقف إلى ذلك في موضع لا يحكم فيه إلا بقول من يبطل الوقف إذا لم يخرجه عن يده وإذا شرط النظر بنفسه ، فالحيلة في ذلك أن يفوض النظر إلى من يثق به ويجعل إليه تفويض النظر لمن شاء ، فيقبل الناظر ذلك ، ويصح الوقف ويلزم ، ثم يفوضه الناظر إليه ، فإنه قد صار أجنبيا [ ص: 289 ] بمنزلة سائر الناس ، فهذه حيلة صحيحة يتوصل بها إلى حق ، فهي جائزة ، وكذلك لو جعل النظر فيه للحاكم ثم فوضه الحاكم إليه ، فإن خاف أن لا يفوضه الحاكم إليه فليملكه لمن يثق به ، ويقفه ذلك على ما يريد المملك ، ويشترط أن يكون نظره له ، وأن يكون تحت يده .