[ حبس العين على ثمنها وأجرتها    ] المثال الثالث بعد المائة : اختلف الفقهاء هل يملك البائع حبس السلعة على ثمنها ؟ وهل يملك المستأجر حبس العين بعد العمل على الأجرة ؟ على ثلاثة أقوال : أحدها : يملكه في الموضعين ، وهو قول  مالك   وأبي حنيفة  ، وهو المختار ، والثاني : لا يملكه في الموضعين ، وهو المشهور من مذهب أحمد عند أصحابه ، والثالث : يملك حبس العين المستأجرة على عملها ، ولا يملك حبس المبيع على ثمنه ، والفرق بينهما أن العمل يجري مجرى الأعيان ، ولهذا يقابل بالعوض ; فصار كأنه شريك لمالك العين بعمله ، فأثر عمله قائم بالعين ; فلا يجب عليه تسليمه قبل أن يأخذ عوضه ، بخلاف المبيع ; فإنه قد دخل في ملك المشتري ، وصار الثمن في ذمته ، ولم يبق للبائع تعلق بالعين ، ومن سوى بينهما قال : الأجرة قد صارت في الذمة ، ولم يشترط رهن العين عليها ، فلا يملك حبسها . 
وعلى هذا فالحيلة في الحبس في الموضعين حتى يصل إلى حقه أن يشترط عليه رهن العين المستأجرة على أجرتها ، فيقول : رهنتك هذا الثوب على أجرته ، وهي كذا وكذا ، وهكذا في المبيع يشترط على المشتري رهنه على ثمنه حتى يسلمه إليه ، ولا محذور في ذلك أصلا ، ولا معنى ، ولا مأخذا قويا يمنع صحة هذا الشرط والرهن ، وقد اتفقوا أنه لو شرط عليه رهن عين أخرى على الثمن جاز ، فما الذي يمنع جواز رهن المبيع على ثمنه ؟ . 
 [ ص: 27 ] ولا فرق بين أن يقبضه أو لا يقبضه على أصح القولين ، وقد نص الإمام  أحمد  على جواز اشتراط رهن المبيع على ثمنه ، وهو الصواب ومقتضى قواعد الشرع وأصوله ، وقال  القاضي  ، وأصحابه : لا يصح ، وعلله  ابن عقيل  بأن المشتري رهن ما لا يملك ، فلم يصح ، كما لو شرط أن يرهنه عبدا لغيره يشتريه ويرهنه ، وهذا تعليل باطل ; فإنه إنما حصل الرهن بعد ملكه ، واشتراطه قبل الملك لا يكون بمنزلة رهن الملك . 
والفرق بين هذه المسألة وبين اشتراط رهن عبد زيد أن اشتراط رهن عبد زيد [ غرر ] قد يمكن ، وقد لا يمكن ، بخلاف اشتراط رهن المبيع على ثمنه ، فإنه إن تم العقد صار المبيع رهنا ، وإن لم يتم تبينا أنه لا ثمن يحبس عليه الرهن ، فلا غرر ألبتة ; فالمنصوص أفقه ، وأصح ، وهذا على أصل من يقول " للبائع حبس المبيع على ثمنه " ألزم ، وهو مذهب  مالك   وأبي حنيفة  ، وأحد قولي  الشافعي  ، وبعض أصحاب الإمام  أحمد  ، وهو الصحيح ، وإن كان خلاف منصوص  أحمد    . 
لأن عقد البيع يقتضي استواءهما في التسلم والتسليم ، ففي إجبار البائع على التسليم قبل حضور الثمن ، وتمكينه من قبضه إضرار به ، فإذا [ كان ] ملك حبسه على ثمنه من غير شرط فلأن يملكه مع الشرط أولى وأحرى ، فقول  القاضي  ، وأصحابه مخالف لنص  أحمد  والقياس ، فإن شرط أن يقبض المشتري المبيع ثم يرهنه على ثمنه عند بائعه فأولى بالصحة . 
وقال  ابن عقيل  في الفصول : والرهن أيضا باطل ; لأنهما شرطا رهنه قبل ملكه ، وقد عرفت ما فيه ، وعلله أيضا بتعليل آخر فقال : إطلاق البيع يقتضي تسليم الثمن من غير المبيع ، والرهن يقتضي استيفاءه من عينه إن كان عينا أو ثمنه إن كان عرضا فيتضادا ، وهذا التعليل أقوى من الأول ، وهو الذي أوجب له القول ببطلان الرهن قبل القبض وبعده ، فيقال : المحذور من التضاد إنما هو التدافع بحيث يدفع كل من المتضادين المتنافيين الآخر ، فأما إذا لم يدفع أحدهما الآخر فلا محذور ، والبائع إنما يستحق ثمن المبيع ، وللمشتري أن يؤديه إياه من عين المبيع ، ومن غيره ، فإن له أن يبيعه ويقبضه ثمنه منه . 
وغاية عقد الرهن أن يوجب ذلك ، فأي تدافع ، وأي تناف هنا ؟ : وأما قوله " إطلاق العقد يقتضي التسليم للثمن من غير المبيع " فيقال : بل إطلاقه يقتضي تسليم الثمن من أي جهة شاء المشتري ، حتى لو باعه قفيز حنطة بقفيز حنطة ، وسلمه إليه ملك أن يوفيه إياه ثمنا كما استوفاه مبيعا ، كما لو اقترض منه ذلك ثم وفاه إياه بعينه . 
 [ ص: 28 ] ثم قال  ابن عقيل    : وقد قال الإمام  أحمد  في رواية  بكر بن محمد  عن أبيه : إذا حبس السلعة ببقية الثمن فهو غاصب ، ولا يكون رهنا إلا أن يكون شرط عليه في نفس البيع الرهن ، فظاهر هذا إن شرط كون المبيع رهنا [ في حال العقد أصح ، قال : وليس هذا الكلام على ظاهره ، ومعناه إلا أن يشترط عليه في نفس البيع رهنا ] غير المبيع ; لأن اشتراط رهن البيع اشتراط تعويق التسليم في المبيع . 
قلت    : ولا يخفى منافاة ما قاله لظاهر كلام الإمام  أحمد  ، فإن كلام  أحمد  المستثنى والمستثنى منه في صورة حبس المبيع على ثمنه ، فقال : " هو غاصب إلا أن يكون شرط عليه في نفس البيع الرهن " أي : فلا يكون غاصبا بحبس السلعة بمقتضى شرطه ، ولو كان المراد ما حمله عليه لكان معنى الكلام إذا حبس السلعة ببقية الثمن فهو غاصب إلا أن يكون قد شرط له رهنا آخر غير المبيع يسلمه إليه ، وهذا كلام لا يرتبط أوله بآخره ، ولا يتعلق به ، فضلا عن أن يدخل في الأول ثم يستثنى منه ، ولهذا جعله  أبو البركات ابن تيمية  نصا في صحة هذا الشرط ، ثم قال : وقال  القاضي    : لا يصح . 
وأما قوله " إن اشتراط رهن المبيع تعويق للتسليم في المبيع " فيقال : واشتراط التعويق إذا كان لمصلحة البائع ، وله فيه غرض صحيح ، وقد قدم عليه المشتري فأي محذور فيه ؟ ثم هذا يبطل باشتراط الخيار ; فإن فيه تعويقا للمشتري عن التصرف في المبيع ، وباشتراط المشتري تأجيل الثمن ; فإن فيه تعويقا للبائع عن تسلمه أيضا ، ويبطل على أصل الإمام  أحمد  ، وأصحابه باشتراط البائع انتفاعه بالمبيع مدة يستثنيها ; فإن فيه تعويقا للتسليم ، ويبطل أيضا ببيع العين المؤجرة . 
فإن قيل : إذا اشترط أن يكون رهنا قبل قبضه تدافع موجب البيع والرهن ، فإن موجب الرهن أن يكون تلفه من ضمان مالكه ; لأنه أمانة في يد المرتهن ، وموجب البيع أن يكون تلفه قبل التمكين من قبضه من ضمان البائع ، فإذا تلف هذا الرهن قبل التمكن من قبضه ، فمن ضمان أيهما يكون ؟ قيل : هذا السؤال أقوى من السؤالين المتقدمين ، والتدافع فيه أظهر من التدافع في التعليل الثاني ، وجواب هذا السؤال أن الضمان قبل التمكن من القبض كان على البائع كما كان ، ولا يزيل هذا الضمان إلا تمكن المشتري من القبض ، فإذا لم يتمكن من قبضه فهو  [ ص: 29 ] مضمون على البائع كما كان ، وحبسه إياه على ثمنه لا يدخله في ضمان المشتري ويجعله مقبوضا له كما لو حبسه بغير شرط . 
فإن قيل :  فأحمد  رحمه الله تعالى قد قال : " إنه إذا حبسه على ثمنه كان غاصبا إلا أن يشترط عليه الرهن " ، وهذا يدل على أنه قد فرق في ضمانه بين أن يحبسه بشرط أو يحبسه بغير شرط ، وعندكم هو مضمون عليه في الحالين ، وهو خلاف النص . 
فالجواب أن الإمام  أحمد  رحمه الله تعالى إنما جعله غاصبا بالحبس ، والغاصب عنده يضمن العين بقيمتها أو مثلها ، ثم يستوفي الثمن أو بقيته من المشتري ، وأما إذا تلف قبل قبضه فهو من ضمان البائع ، بمعنى أنه ينفسخ العقد فيه ، ولا يملك مطالبة المشتري بالثمن ، وإن كان قد قبضه منه أعاده إليه ، فهذا الضمان شيء ، وضمان الغاصب شيء آخر . 
فإن قيل : فكيف يكون رهنا وضمانه على المرتهن ؟ قيل : لم يضمنه المرتهن من حيث هو رهن ، وإنما ضمنه من حيث كونه مبيعا لم يتمكن مشتريه من قبضه ، فحق توفيته بعد على بائعه . 
فإن قيل : فما تقولون لو حبس البائع السلعة ; لاستيفاء حقه منها ، وهذا يكون في صور : إحداها : أن يبيعه دارا له فيها متاع لا يمكن نقله في وقت واحد . 
والثانية : أن يستثني البائع الانتفاع بالمبيع مدة معلومة على أصلكم ، أو نحو ذلك ، فإذا تلفت في يد البائع قبل تمكن المشتري من القبض في هاتين الصورتين هل تكون من ضمانة أو من ضمان البائع ؟ . 
الثالثة : أن يشترط الخيار ويمنعه من تسليم المبيع قبل انقضاء الخيار ، قيل : الضمان في هذا كله على البائع ; لأنه لم يدخل تحت يد المشتري ، ولم يتمكن من قبضه ، فلا يكون مضمونا عليه . 
فإن قيل : فهل يكون من ضمانه بالثمن أو بالقيمة ؟ قيل : بل يكون مضمونا عليه بالثمن ، بمعنى أن العقد ينفسخ بتلفه ; فلا يلزم المشتري تسليم الثمن . 
				
						
						
