[ المخرج الخامس ونحوه ] فعل المحلوف عليه مع الذهول
المخرج الخامس : أن يفعل المحلوف عليه ذاهلا ، أو ناسيا ، أو مخطئا ، أو جاهلا ، أو مكرها ، أو متأولا ، أو معتقدا أنه لا يحنث به تقليدا لمن أفتاه بذلك ، أو مغلوبا على عقله ، أو ظنا منه أن امرأته طلقت فيفعل المحلوف عليه بناء على أن المرأة أجنبية فلا يؤثر فعل المحلوف عليه في طلاقها شيئا .
[ ] الذهول والفرق بينه وبين النسيان
فمثال الذهول أن . يحلف أنه لا يفعل شيئا هو معتاد لفعله فيغلب عليه الذهول والغفلة فيفعله
والفرق بين هذا وبين الناسي أن الناسي يكون قد غاب عنه اليمين بالكلية فيفعل المحلوف عليه ذاكرا له عامدا لفعله ، ثم يتذكر أنه كان قد حلف على تركه ، وأما الغافل والذاهل واللاهي فليس بناس ليمينه ، ولكنه لها عنها أو ذهل كما يذهل الرجل عن الشيء في يده أو حجره بحديث أو نظر إلى شيء أو نحوه كما قال تعالى : { وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى } .
يقال : لهي عن الشيء يلهى كغشي يغشى إذا غفل ، ولها به يلهو ، إذا لعب ; وفي الحديث " { } أي اشتغل به ، ومنه الحديث الآخر { فلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء كان في يديه إذا استأثر الله بشيء فاله عنه } .
وسئل الحسن عما يجده الرجل من البلة بعد الوضوء والاستنجاء ، فقال " اله عنه " ، وكان إذا سمع صوت الرعد لها عن حديثه ، وقال ابن الزبير رضي الله عنه لرجل بعثه بمال إلى عمر أبي عبيدة ثم قال للرسول : " تله عنه ثم انظر ماذا يصنع به " .
ومنه قول كعب بن زهير :
وقال كل صديق كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول
أي لا أشغلك عن شأنك وأمرك ، وفي المسند { } وهم البله الغافلون الذين لم يتعمدوا الذنوب ، وقيل : هم الأطفال الذين لم يقترفوا ذنبا . سألت ربي أن لا يعذب اللاهين من أمتيفصل :
[ النسيان ضربان ]
وأما الناسي فهو ضربان : ناس لليمين ، وناس للمحلوف عليه ، فالأول ظاهر ، والثاني : كما إذا ، وهذا كما لو حلف لا يأكل طعام كذا وكذا ، فنسيه ، ثم أكله ، وهو ذاكر ليمينه ، ثم ذكر أن هذا [ ص: 64 ] هو الذي حلف عليه ; فهذا إذا كان يعتقد أنه غير المحلوف عليه ثم بان أنه هو فهو خطأ . حلف على شيء وفعله ، وهو ذاكر ليمينه ، لكن نسي أن هذا هو المحلوف عليه بعينه
فإن لم يخطر بباله كونه المحلوف عليه ولا غيره فهو نسيان ، والفرق بين الجاهل بالمحلوف عليه ولا غيره فهو نسيان ، والفرق بين الجاهل بالمحلوف عليه والمخطئ أن الجاهل قصد الفعل ولم يظنه المحلوف عليه ، والمخطئ لم يقصده كما لو رمى طائرا فأصاب إنسانا .
[ المكره نوعان ]
والمكره نوعان :
أحدهما : له فعل اختياري لكن محمول عليه ، والثاني : ملجأ لا فعل له ، بل هو آلة محضة .
[ المتأول ]
والمتأول كمن ، وكمن يحلف أنه لا يكلم زيدا وكاتبه يعتقد أن مكاتبته ليست تكليما متأولا ، وكمن حلف أنه لا يشرب خمرا فشرب نبيذا مختلفا فيه ونحو ذلك . حلف لا يرابي فباع بالعينة ، أو لا يطأ فرجا حراما فوطئ في نكاح تحليل مختلف فيه
والتأويل ثلاث درجات : قريب وبعيد ومتوسط ، ولا تنحصر أفراده ، والمعتقد أنه لا يحنث بفعله تقليدا سواء كان المفتي مصيبا أو مخطئا كمن ، أو الطلاق يلزمني لا تخرجين من بيتي ، فأفتاه مفت بأن هذه اليمين لا يلزم بها الطلاق بناء على أن الطلاق المعلق لغو كما يقوله بعض أصحاب قال لامرأته : إن خرجت من بيتي فأنت طالق الشافعي وبعض كأبي عبد الرحمن الشافعي أهل الظاهر كما صرح به صاحب المحلى ، فقال : عندنا كالطلاق باليمين كل ذلك لا يلزم . والطلاق بالصفة
[ المغلوب على عقله ]
والمغلوب على عقله كمن بشرب دواء أو بنج أو غضب شديد ونحو ذلك . يفعل المحلوف عليه في حال سكر أو جنون أو زوال عقل
[ ظن الطلاق ]
والذي ، كما إذا يظن أن امرأته طلقت فيفعل المحلوف عليه بناء على أنه لا يؤثر في الحنث . قال : إن كلمت فلانا فأنت طالق ثلاثا ، ثم قال : إن فعلت كذا فامرأتي طالق ثلاثا ، فقيل له : إن امرأتك قد كلمت فلانا ، فاعتقد صدق القائل ، وأنها قد بانت منه ، ففعل المحلوف عليه بناء على أن العصمة قد انقطعت ، ثم بان له أن المخبر كاذب
وكذلك لو قيل له : قد كلمت فلانا ، فقال : طلقت مني ثلاثا ، ثم بان له أنها لم [ ص: 65 ] تكلمه ، ومثل ذلك لو فاختلف الفقهاء في ذلك اختلافا لا ينضبط . قيل له : إن امرأتك قد مسكت تشرب الخمر مع فلان ، فقال : هي طالق ثلاثا ، ثم ظهر كذب المخبر ، وأن ذلك لم يكن منه شيء
فنذكر أقوال من أفتى بعدم الحنث في ذلك ; إذ هو الصواب بلا ريب ، وعليه تدل الأدلة الشرعية ; ألفاظها وأقيستها واعتبارها ، وهو مقتضى قواعد الشريعة ; فإن البر والحنث في اليمين نظير الطاعة والمعصية في الأمر والنهي ، وإن فعل المكلف ذلك في أمر الشارع ونهيه لم يكن عاصيا ، فأولى في باب اليمين أن لا يكون حانثا .
ويوضحه أنه إنما عقد يمينه على فعل ما يملكه ، والنسيان والجهل والخطأ والإكراه غير داخل تحت قدرته ، فما فعله في تلك الأحوال لم يتناوله يمينه ، ولم يقصد منع نفسه منه .
يوضحه أن الله تعالى قد رفع المؤاخذة عن المخطئ والناسي والمكره ، فإلزامه بالحنث أعظم مؤاخذة لما تجاوز الله عن المؤاخذة به ، كما أنه تعالى لما تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها لم تتعلق به المؤاخذة في الأحكام .
يوضحه أن فعل الناسي والمخطئ بمنزلة فعل النائم في عدم التكليف به ، ولهذا هو عفو لا يكون به مطيعا ولا عاصيا .
يوضحه أن الله تعالى إنما رتب الأحكام على الألفاظ ; لدلاتها على قصد المتكلم بها ، وإرادته ، فإذا تيقنا أنه قصد كلامها ، ولم يقصد معانيها ، ولم يقصد مخالفة ما التزمه ولا الحنث فإن الشارع لا يلزمه بما لم يقصده ، بل قد رفع المؤاخذة عنه بما لم يقصده من ذلك .
يوضحه أن اللفظ دليل على القصد ، فاعتبر ; لدلالته عليه ، فإذا علمنا يقينا خلاف المدلول لم يجز أن نجعله دليلا على ما تيقنا خلافه .
وقد رفع الله المؤاخذة عن قتل المسلم المعصوم بيده مباشرة إذا لم يقصد قتله بل قتله خطأ ، ولم يلزمه شيئا من ديته ، بل حملها غيره ، فكيف يؤاخذه بالخطأ والنسيان في باب الأيمان ؟ هذا من الممتنع على الشارع .
وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم المؤاخذة عمن ، مع أن أكله وشربه فعل لا يمكن تداركه ، فكيف يؤاخذه بفعل المحلوف عليه ناسيا ويطلق عليه امرأته ويخرب بيته ويشتت شمله وشمل أولاده ، وأهله وقد عفا له عن الأكل والشرب في نهار الصوم ناسيا ؟ [ ص: 66 ] وقد عفا عمن أكل وشرب في نهار رمضان ناسيا لصومه ، وعفا له عن ذلك ، ولم يأمره بالقضاء ، لتأويله ، فما بال الحالف المتأول لا يعفى له عن الحنث بل يخرب بيته ، ويفرق بينه وبين حبيبته ويشتت شمله كل مشتت ؟ وقد عفا عن أكل أو شرب في نهار الصوم عمدا غير ناس لما تأول الخيط الأبيض والخيط الأسود بالحبلين المعروفين ، فجعل يأكل حتى تبينا له وقد طلع النهار ، ولم يأمره بالإعادة لما كان جاهلا بالتحريم لم يتعمد مخالفة حكمه ، فألغى كلامه ، ولم يجعله مبطلا للصلاة ، فكيف لا يقتدى به ويلغى قول الجاهل وفعله في باب الأيمان ولا يحنثه كما لم يؤثمه الشارع ؟ وإذا كان قد عفا عمن المتكلم في صلاته عمدا فلم يؤاخذه بترك ترتيبها نسيانا ، فكيف يحنث أن قدم ما حلف على تأخيره أو أخر ما حلف على تقديمه ناسيا أو جاهلا ؟ ، وإذا كان قد عفا عمن حمل القذر في الصلاة ناسيا أو جاهلا به ، فكيف يؤاخذ الحالف ويحنث به ؟ وكيف تكون أوامر الرب تعالى ونواهيه دون ما التزمه الحالف بالطلاق والعتاق ؟ وكيف يحنث من لم يتعمد الحنث ؟ وهل هذا إلا بمنزلة تأثيمه من لم يتعمد الإثم وتكفيره من لم يتعمد الكفر ؟ وكيف يطلق أو يعتق على من لم يتعمد الطلاق والعتاق ، ولم يطلق على الهازل إلا لتعمده فإنه تعمد الهزل ، ولم يرد حكمه ، وذلك ليس إليه بل إلى الشارع ، فليس الهازل معذورا ، بخلاف الجاهل والمخطئ والناسي . قدم شيئا أو أخره من أعمال المناسك من الحلق والرمي والنحر نسيانا أو جهلا
وبالجملة فقواعد الشريعة وأصولها تقتضي ألا يحنث الحالف في جميع ما ذكرنا ولا يطرد على القياس ويسلم من التناقض إلا هذا القول .
وأما تحنيثه في جميع ذلك فإن صاحبه وإن سلم من التناقض لكن قوله مخالف لأصول الشريعة وقواعدها ، وأدلتها .
ومن حنث في بعض ذلك دون بعض تناقض ، ولم يطرد له قول ، ولم يسلم له دليل عن المعارضة .
وقد اختلفت الرواية عن الإمام في ذلك ; ففيه ثلاث روايات ، إحداها : أنه لا يحنث في شيء من الأيمان بالنسيان ولا الجهل بفعل المحلوف عليه مع النسيان سواء كانت من الأيمان المكفرة أو غيرها ، وعلى هذه الرواية فيمينه باقية لم تنحل بفعل المحلوف عليه [ ص: 67 ] مع النسيان والجهل ; لأن أحمد ; إذ لو كان فاعلا للمحلوف عليه بالنسبة إلى البر لكان فاعلا له بالنسبة إلى الحنث . اليمين كما لم يتناول حالة الجهل والنسيان بالنسبة إلى الحنث لم يتناولها بالنسبة إلى البر
وهذه الرواية اختيار شيخ الإسلام وغيره ، وهي أصح قولي اختاره جماعة من أصحابه ، والثانية : يحنث في الجميع ، وهي مذهب الشافعي أبي حنيفة والثالثة : يحنث في اليمين التي لا تكفر كالطلاق والعتاق ، ولا يحنث في اليمين المكفرة ، وهي اختيار ومالك ، وأصحابه . والذين حنثوه مطلقا نظروا إلى صورة الفعل ، وقالوا : قد وجدت المخالفة . والذين فرقوا قالوا : القاضي من باب التعليق على الشرط ، فإذا وجد الشرط وجد المشروط ، سواء كان مختارا لوجوده أو لم يكن . الحلف بالطلاق والعتاق
كما لو قال : " إن قدم زيد فأنت طالق " ففعل المحلوف عليه في حال جنونه ، فهل هو كالنائم فلا يحنث أو كالناسي فيجري فيه الخلاف ؟ على وجهين في مذهب الإمام أحمد ، ، وأصحهما أنه كالنائم لأنه غير مكلف . والشافعي