فصل :
[ المخرج العاشر زوال سبب اليمين ]
المخرج العاشر :
مخرج زوال السبب ، وقد كان الأولى تقديمه على هذا المخرج لقوته وصحته ، فإن الحكم يدور مع علته وسببه وجودا وعدما ، ولهذا كالخمر علق بها حكم التنجيس ووجوب الحد لوصف الإسكار ، فإذا زال عنها وصارت خلا زال الحكم ، وكذلك وصف الفسق علق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية ، فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علق عليه ، وكذلك السفه والصغر والجنون والإغماء تزول الأحكام المعلقة عليها بزوالها ، والشريعة مبنية على هذه القاعدة ، فهكذا الحالف إذا إذا علق الشارع حكما بسبب أو علة زال ذلك الحكم بزوالهما لم يحنث بفعله ; لأن يمينه تعلقت به لذلك الوصف ، فإذا زال الوصف زال تعلق اليمين فإذا حلف على أمر لا يفعله لسبب فزال السبب لم يحنث ، فإن منع نفسه منه نظير منع [ ص: 81 ] الشارع ، فإذا زال منع الشارع بانقلابه خلا وجب أن يزول منع نفسه بذلك ، والتفريق بين الأمرين تحكم محض لا وجه له ; فإذا كان التحريم والتنجيس ووجوب الإراقة ووجوب الحد وثبوت الفسق قد زال بزوال سببه فما الموجب لبقاء المنع في صورة اليمين وقد زال سببه ؟ دعي إلى شراب مسكر ليشربه فحلف أن لا يشربه ، فانقلب خلا فشربه
وهل يقتضي محض الفقه إلا زوال حكم اليمين ؟ يوضحه أن الحالف يعلم من نفسه أنه لم يمنعها من شرب غير المسكر ، ولم يخطر بباله ، فإلزامه ببقاء " حكم اليمين وقد زال سببها إلزام بما لم يلتزمه هو ، ولا ألزمه به الشارع ، وكذلك لو ; فإنه يزول حكم المنع باليمين كما يزول حكم المنع من ذلك بالشرع ، وكذلك إذا حلف على رجل أن لا يقبل له قولا ولا شهادة لما يعلم من فسقه ، ثم تاب وصار من خيار الناس لم يحنث ; لأن المنع بيمينه كالمنع بمنع الشارع ، ومنع الشارع يزول بزوال الأسباب التي ترتب عليها المنع ; فكذلك منع الحالف ، وكذلك إذا حلف لا دخلت هذه الدار . حلف أن لا يأكل هذا الطعام أو لا يلبس هذا الثوب أو لا يكلم هذه المرأة ولا يطأها لكونه لا يحل له ذلك ، فملك الطعام والثوب وتزوج المرأة فأكل الطعام ولبس الثوب ووطئ المرأة
وكان سبب يمينه أنها تعمل فيها المعاصي وتشرب الخمر ; فزال ذلك وعادت مجمعا للصالحين وقراءة القرآن والحديث ، أو قال : " لا أدخل هذا المكان " لأجل ما رأى فيه من المنكر ، فصار بيتا من بيوت الله تقام فيه الصلوات لم يحنث بدخوله ، وكذلك إذا لم يحنث بأكل طعامه ، ويزول حكم منع اليمين كما يزول حكم منع الشارع ، وكذلك لو حلف لا يأكل لفلان طعاما ، وكان سبب اليمين أنه يأكل الربا ، ويأكل أموال الناس بالباطل ; فتاب وخرج من المظالم وصار طعامه من كسب يده أو تجارة مباحة لم يحنث ، وأضعاف أضعاف هذه المسائل ، كما إذا حلف لا بايعت فلانا ، وسبب يمينه كونه مفلسا أو سفيها ; فزال الإفلاس والسفه ; فبايعه لم يحنث ، وكذلك لو اتهم بصحبة مريب فحلف لا أصاحبه فزالت الريبة وخلفها ضدها فصاحبه لم يحنث بأكله . حلف المريض لا يأكل لحما أو طعاما وسبب يمينه كونه يزيد في مرضه فصح وصار الطعام نافعا له
وقد صرح الفقهاء بمسائل من هذا الجنس ، فمنها : لو لم يحنث ، ومنها : لو حلف لوال أن لا أفارق البلد إلا بإذنك فعزل ففارق البلد بغير إذنه لم يحنث ، ذكره أصحاب الإمام حلف على زوجته لا تخرجين من بيتي إلا بإذني ، أو على عبده لا يخرج إلا بإذنه ، ثم طلق الزوجة ، وأعتق العبد فخرجا بغير إذنه . أحمد
قال صاحب المغني : لأن قرينة الحال تنقل حكم الكلام إلى نفسها ، وهو يملك منع الزوجة والعبد مع ولايته عليهما ; فكأنه قال : ما دمتما في ملكي ، ولأن السبب يدل على النية في الخصوص كدلالته عليها في العموم ، وكذلك لو لم يحنث بعدم الرفع إليه بعد العزل ، وكذلك إذا حلف لقاض أن لا أرى منكرا إلا [ ص: 82 ] رفعته إليك فعزل لم يحنث إذا بات خارجها ، وكذلك إذا حلف لامرأته ألا أبيت خارج بيتك أو خارج هذه الدار فماتت أو طلقها لم يحنث بمبيته خارج الدار ، وهذا كله مذهب حلف على ابنه ألا يبيت خارج البيت لخوفه عليه من الفساق ; لكونه أمرد ، فالتحى وصار شيخا مالك ; فإنهما يعتبران النية في الأيمان وبساط اليمين وسببها وما هيجها ; فيحملان اليمين على ذلك . وأحمد
[ قف على اعتبارهم ] بساط اليمين
وقال في كتاب الأيمان من كتابه الكافي في مذهب أبو عمر بن عبد البر : والأصل في هذا الباب مراعاة ما نواه الحالف ; فإن لم تكن له نية نظر إلى بساط قصته ، وما أثاره على الحلف ، ثم حكم عليه بالأغلب من ذلك في نفوس أهل وقته . مالك
وقال صاحب الجواهر : أمور ; الأول : النية إذا كانت مما يصلح أن يراد اللفظ بها ، سواء كانت مطابقة له أو زائدة فيه أو ناقصة عنه بتقييد مطلقه وتخصيص عامه ، الثاني : السبب المثير لليمين يتعرف منه ، ويعبر عنه بالبساط أيضا ، وذلك أن القاصد لليمين لا بد أن تكون له نية ، وإنما يذكرها في بعض الأوقات وينساها في بعضها ; فيكون المحرك على اليمين - ، وهو البساط - دليلا عليها ، لكن قد يظهر مقتضى المحرك ظهورا لا إشكال فيه ، وقد يخفى في بعض الحالات ، وقد يكون ظهوره وخفاؤه بالإضافة . المقتضيات للبر والحنث
وكذلك أصحاب الإمام صرحوا باعتبار النية وحمل اليمين على مقتضاها ، فإن عدمت رجع إلى سبب اليمين وما هيجها فحمل اللفظ عليه ; لأنه دليل على النية . حتى صرح أصحاب أحمد فيمن مالك لم يحنث ، قالوا : لأن قصده ونيته إنما هو إن كان المال قد ذهب فأنت التي أخذته ; فتأمل كيف جعلوا القصد والنية في قوة الشرط ، وهذا هو محض الفقه . دفن مالا ونسي مكانه فبحث عنه فلم يجده فحلف على زوجته أنها هي التي أخذته ثم وجده
ونظير هذا ما لو فإنه لا يحنث بأكله ; لأن يمينه إنما تعلقت به إن كان حراما وذلك قصده . دعي إلى طعام فظنه حراما فحلف لا أطعمه ثم ظهر أنه حلال لا شبهة فيه
ومثله لو لم يحنث بالرد عليه . مر به رجل فسلم عليه فحلف لا يرد عليه السلام لظنه أنه مبتدع أو ظالم أو فاجر ، فظهر أنه غير ذلك الذي ظنه
[ ص: 83 ] ومثله لو لم يحنث بركوبها . قدمت له دابة ليركبها فظنها قطوفا أو جموحا أو متعسرة الركوب فحلف لا يركبها فظهرت له بخلاف ذلك
وقال في مختصره : ويرجع في الأيمان إلى النية ; فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها . أبو القاسم الخرقي
وقال أصحاب الإمام : إذا أحمد اختصت يمينه بذلك الغداء وبالقعود في ذلك الوقت ; لأن عاقلا لا يقصد أن لا يتغدى أبدا ولا يقعد أبدا . دعي إلى غداء فحلف أن لا يتغدى أو قيل له اقعد فحلف أن لا يقعد
ثم قال صاحب المغني : إن كان له نية فيمينه على ما نوى ، وإن لم تكن له نية ; فكلام يقتضي روايتين ; إحداهما : أن اليمين محمولة على العموم ; لأن أحمد سئل عن أحمد ، قال أحمد : النذر يوفى به ، يعني لا يدخله ، ووجه ذلك أن لفظ الشارع إذا كان عاما لسبب خاص وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب ، كذلك يمين الحالف . رجل حلف أن لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم
ونازعه في ذلك شيخنا ، فقال : إنما منعه من دخول البلد بعد زوال الظلم ; لأنه نذر لله ألا يدخلها ، وأكد نذره باليمين ، والنذر قربة ، فقد نذر التقرب إلى الله بهجران ذلك البلد ; فلزمه الوفاء بما نذره . أحمد
هذا هو الذي فهمه الإمام ، وأجاب به السائل حيث قال : النذر يوفى به ; ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم أحمد المهاجرين من الإقامة بمكة بعد قضاء نسكهم فوق ثلاثة أيام ; لأنهم تركوا ديارهم لله ، فلم يكن لهم العود فيها ، وإن زال السبب الذي تركوها لأجله ، وذلك نظير مسألة ترك البلد للظلم والفواحش التي فيه إذا نذره الناذر ; فهذا سر جوابه ، وإلا فمذهبه الذي عليه نصوصه وأصوله وحمل كلام الحالفين على ذلك ، وهذا في نصوصه أكثر من أن يذكر فلينظر فيها . اعتبار النية والسبب في اليمين
وأما مذهب أصحاب فقال في كتاب الذخائر في كتاب الأيمان : أبي حنيفة
الفصل السادس في تقييد الأيمان المطلقة بالدلالة ، إذا أرادت المرأة الخروج من الدار فقال الزوج " إن خرجت من الدار فأنت طالق " فجلست ساعة ثم خرجت لا تطلق ، وكذلك لو أراد رجل أن يضربه فحلف آخر أن لا يضربه ، فهذا على تلك الضربة ، حي لو مكث ساعة ثم ضربه لا يحنث ، ويسمى هذا يمين الفور ، وهذا لأن الخرجة التي قصد والضربة التي قصد هي المقصودة بالمنع منها عرفا وعادة ; فيتعين ذلك بالعرف والعادة ، وإذا لا يحنث ، وكذلك إذا قال الرجل لغيره : كل مع فلان ، فقال : والله لا آكل ، ثم ذكر تقرير ذلك [ ص: 84 ] بأنه جواب لقول الآمر له ، والجواب كالمعاد في السؤال ; فإنه يتضمن ما فيه ، قال : وليس كابتداء اليمين ; لأن كلامه لم يخرج جوابا بالتقييد ، بل خرج ابتداء ، هو مطلق عن القيد فينصرف إلى كل غداء ، دخل الرجل على الرجل فقال : تعالى تغد معي ، فقال : والله لا أتغدى ، فذهب إلى بيته وتغدى مع أهله ، فهذا يختص باليوم ; لأنه خرج جوابا عن الكلام السابق ، وعلى هذا إذا قال : وإذا قال لغيره : كلم لي زيدا اليوم في كذا ، فقال : والله لا أكلمه ، وقد صرح أصحاب قال : ائتني اليوم ، فقال : امرأته طالق إن أتاك بأن النية تعمل في اللفظ لتعيين ما احتمله اللفظ ; فإذا تعين باللفظ ، ولم يكن اللفظ محتملا لما نوى لم تؤثر النية فيه ; فإنه حينئذ يكون الاعتبار بمجرد النية ، ومجرد النية لا أثر لها في إثبات الحكم ; فإذا احتملها اللفظ فعينت بعض محتملاته أثرت حينئذ ، قالوا : ولهذا لو قال : " إن لبست ثوبا أو أكلت طعاما أو شربت شرابا أو كلمت امرأة فامرأته طالق " ونوى ثوبا أو طعاما أو شرابا أو امرأة معينا دين فيما بينه وبين الله ، وقبلت نيته بغير خلاف ، ولو حذف المفعول واقتصر على الفعل ; فكذلك عند أبي حنيفة في رواية عنه أبي يوسف والخصاف ، وهو قول الشافعي وأحمد . ومالك
والمقصود أن النية تؤثر في اليمين تخصيصا وتعميما ، وإطلاقا وتقييدا ، والسبب يقوم مقامها عند عدمها ، ويدل عليها ، فيؤثر ما يؤثره ، وهذا هو الذي يتعين الإفتاء به ، ولا يحمل الناس على ما يقطع أنهم لم يريدوه بأيمانهم ، فكيف إذا علم قطعا أنهم أرادوا خلافه ؟ والله أعلم .