[ مما ينبغي للمفتي أن يذكر الحكم بدليله ] الفائدة السادسة : 
ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه من ذلك  ، ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجا مجردا عن دليله ومأخذه ; فهذا لضيق عطنه وقلة بضاعته من العلم ، ومن تأمل فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم الذي قوله حجة بنفسه رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ونظيره ، ووجه مشروعيته ، وهذا كما { سئل عن بيع الرطب بالتمر  فقال أينقص الرطب إذا جف ؟ قالوا : نعم ، فزجر عنه   } ، ومن المعلوم أنه كان يعلم نقصانه بالجفاف ، ولكن نبههم على علة التحريم وسببه . 
ومن هذا { قوله  لعمر  وقد سأله عن قبلة امرأته وهو صائم  ، فقال : أرأيت لو تمضمضت ثم مججته ، أكان يضر شيئا ؟ قال : لا   } ، فنبه على أن مقدمة المحظور لا يلزم أن تكون محظورة ; فإن غاية القبلة أنها مقدمة الجماع ، فلا يلزم من تحريمه تحريم مقدمته ، كما أن وضع الماء في الفم مقدمة شربه ، وليست المقدمة محرمة . 
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم { لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا على خالتها ، فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم  [ ص: 124 ] أرحامكم   } ; فذكر لهم الحكم ، ونبههم على علة التحريم . 
ومن ذلك { قوله لأبي النعمان بن بشير  وقد خص بعض ولده بغلام نحله إياه ، فقال : أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟ قال : نعم ، قال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم   } وفي لفظ { إن هذا لا يصلح   } وفي لفظ { إني لا أشهد على جور   } وفي لفظ { أشهد على هذا غيري   } تهديدا ، لا إذنا ، فإنه لا يأذن في الجور قطعا ، وفي لفظ : رده ، والمقصود أنه نبهه على علة الحكم . 
ومن هذا { قوله صلى الله عليه وسلم  لرافع بن خديج  وقد قال : له إنا لاقو العدو غدا ، وليس معنا مدى ، أفنذبح بالقصب ؟ فقال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر ، وسأحدثك عن ذلك ، أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة    } فنبه على علة المنع من التذكية بهما بكون أحدهما عظما ، وهذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام ; إما لنجاسة بعضها ; وإما لتنجيسه على مؤمني الجن ، ولكون الآخر مدى الحبشة  ، ففي التذكية بها تشبه بالكفار . 
ومن ذلك قوله {   : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الإنسية ، فإنها رجس   } ومن ذلك { قوله في الثمرة تصيبها الجائحة : أرأيت إن منع الله الثمرة ، فبم يأكل أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ .   } وهذا التعليل بعينه ينطبق على من استأجر أرضا للزراعة فأصاب الزرع آفة سماوية  لفظا ومعنى ، فيقال للمؤجر : أرأيت إن منع الله الزرع فبم تأكل مال أخيك بغير حق ؟ ، وهذا هو الصواب الذي ندين الله به في المسألة ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية    . 
والمقصود أن الشارع مع كون قوله حجة بنفسه يرشد الأمة إلى علل الأحكام ومداركها وحكمها ، فورثته من بعده كذلك . 
ومن ذلك { نهيه عن الخذف وقال إنه يفقأ العين ويكسر السن   } ومن ذلك إفتاؤه للعاض يد غيره بإهدار دية ثنيته لما سقطت بانتزاع المعضوض يده من فيه ، ونبه على العلة بقوله { أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل   } وهذا من أحسن التعليل وأبينه ; فإن العاض لما صال على المعضوض جاز له أن يرد صياله عنه بانتزاع يده من فمه ، فإذا أدى ذلك إلى إسقاط ثناياه كان سقوطها بفعل مأذون فيه من الشارع فلا يقابل بالدية ، وهذا كثير جدا في السنة . 
فينبغي للمفتي أن ينبه السائل على علة الحكم ومأخذه إن عرف ذلك ، وإلا حرم عليه أن يفتي بلا علم .
وكذلك أحكام القرآن يرشد سبحانه فيها إلى مداركها وعللها ، كقوله : { ويسألونك  [ ص: 125 ] عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض    } فأمر سبحانه نبيه أن يذكر لهم علة الحكم قبل الحكم ، وكذلك قوله : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم    } . 
وكذلك قوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم    } وقال في جزاء الصيد : { ليذوق وبال أمره    } . 
				
						
						
