؟ فيه مذهبان : [ هل على العامي أن يتمذهب بمذهب واحد من الأربعة أو غيرهم ؟ ] أحدهما : لا يلزمه ، وهو الصواب المقطوع به ; إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره ، وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة مبرأ أهلها من هذه النسبة ، بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به ; فالعامي لا مذهب له ; لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال ، ويكون بصيرا بالمذاهب على حسبه ، أو لمن قرأ كتابا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله ، وأما من لم يتأهل لذلك ألبتة بل قال : أنا شافعي ، أو [ ص: 202 ] حنبلي ، أو غير ذلك ; لم يصر كذلك بمجرد القول ، كما لو قال : أنا فقيه ، أو نحوي ، أو كاتب ، لم يصر كذلك بمجرد قوله . وهل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا
يوضحه أن القائل إنه شافعي أو مالكي أو حنفي يزعم أنه متبع لذلك الإمام ، سالك طريقه ، وهذا إنما يصح له إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة والاستدلال ، فأما مع جهله وبعده جدا عن سيرة الإمام وعلمه وطريقه فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من كل معنى ؟ والعامي لا يتصور أن يصح له مذهب ، ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره ، ولا يلزم أحدا قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره .
وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة ، لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام ، وهم أعلى رتبة وأجل قدرا وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك ، وأبعد منه قول من قال : يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء ، وأبعد منه قول من قال : يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة .
فيالله العجب ، ماتت مذاهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب التابعين وتابعيهم وسائر أئمة الإسلام ، وبطلت جملة إلا مذاهب أربعة أنفس فقط من بين سائر الأئمة والفقهاء ، وهل قال ذلك أحد من الأئمة أو دعا إليه أو دلت عليه لفظة واحدة من كلامه عليه ؟ والذي أوجبه الله - تعالى ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة ، لا يختلف الواجب ولا يتبدل ، وإن اختلفت كيفيته أو قدره باختلاف القدرة والعجز والزمان والمكان والحال فذلك أيضا تابع لما أوجبه الله ورسوله ، ومن صحح للعامي مذهبا قال : هو قد اعتقد أن هذا المذهب الذي انتسب إليه هو الحق ، فعليه الوفاء بموجب اعتقاده ، وهذا الذي قاله هؤلاء لو صح للزم منه تحريم استفتاء أهل غير المذهب الذي انتسب إليه ، وتحريم تمذهبه بمذهب نظير إمامه أو أرجح منه ، أو غير ذلك من اللوازم التي يدل فسادها على فساد ملزوماتها ، بل يلزم منه أنه إذا رأى نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قول خلفائه الأربعة مع غير إمامه أن يترك النص وأقوال الصحابة ويقدم عليها قول من انتسب إليه .
وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم ، ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بأحد من الأئمة الأربعة بإجماع الأمة ، كما لا يجب على العالم أن يتقيد بحديث أهل بلده أو غيره من البلاد ، بل إذا صح الحديث وجب عليه العمل به حجازيا [ ص: 203 ] كان أو عراقيا أو شاميا أو مصريا أو يمنيا ، وكذلك لا يجب على الإنسان باتفاق المسلمين ، بل إذا وافقت القراءة رسم المصحف الإمام وصحت في العربية وصح سندها جازت القراءة بها وصحت الصلاة بها اتفاقا ، بل لو قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان ، وقد قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده جازت القراءة بها ولم تبطل الصلاة بها على أصح الأقوال ، والثاني تبطل الصلاة بها ، وهاتان روايتان منصوصتان عن الإمام التقيد بقراءة السبعة المشهورين ، والثالث : إن قرأ بها في ركن لم يكن مؤديا لفرضه ، وإن قرأ بها في غيره لم تكن مبطلة ، وهذا اختيار أحمد ، قال : لأنه لم يتحقق الإتيان بالركن في الأول ولا الإتيان بالمبطل في الثاني ، ولكن ليس له أن يتبع رخص المذاهب وأخذ غرضه من أي مذهب وجده فيه ، بل عليه اتباع الحق بحسب الإمكان . أبي البركات بن تيمية