[ ص: 156 ] مسألة [ ] لا بد للحكم من علة
ونقل في الكلام على السبر والتقسيم إجماع الفقهاء على أنه لا بد للحكم من علة واستشكل ذلك بالأصل المشهور أن أفعال الله لا تعلل بالغرض . ابن الحاجب
قلت : ولا منافاة بينهما لأن الأحكام غير الأفعال . قال الأصفهاني في " شرح المحصول " : ندعي شرعية الأحكام لمصالح العباد ولا ندعي أن جميع أحكام الله تعالى لمصالح العباد ، وذلك ليس في علم الكلام وندعي إجماع الأمة ، ولو ادعى مدع إجماع الأنبياء على ذلك ، بمعنى أنا نعلم قطعا أن الأنبياء صلوات الله عليهم بلغوا الأحكام على وجه يظهر بها غاية الظهور مطابقتها لمصالح العباد في المعاش والمعاد ثم انقسم الناس إلى موفق وغيره ، فالموفق طابق فعله وتركه للأحكام الشرعية ففاز بالسعادتين في الدارين ، والمخذول بالضد من ذلك ، والأمر فيهما ليس إلا لخالق العباد . انتهى . وهكذا ذكر الهروي أن رعاية المصالح لم تخص شريعتنا بل كان معهودا في الشرائع المتقدمة ، وعليها انبنت ووقف عليه الفقيه المقترح وقال : لا علم لنا بذلك ، وقطع به الإبياري ، وقال ابن المنير : ليس كما قال ، فإن شريعة عيسى لم يكن القصاص فيها مشروعا ، وقد أريد بها صلاح الخلق إذ ذاك ، وما قاله في القصاص من شريعة عيسى باطل بل كان مشروعا وإنما الذي لم يشرع فيها الدية ، ويتلخص ثلاثة أقوال :
ثالثها : الوقف . فإن قلت : إذا كانت كل شريعة انبنت على مصالح الخلق إذ ذاك ؟ فبماذا [ ص: 157 ] اختصت شريعتنا حتى صارت أفضل الشرائع وأتمها قلت : بخصائص عديدة : منها : نسبتها إلى رسولها وهو أفضل الرسل . ومنها : نسبتها إلى كتابها وهو أفضل الكتب : ومنها استجماعها لمهمات المصالح وتتماتها ولعل الشرائع قبلها إنما انبنت على المهمات وهذه جمعت المهمات والتتمات ، ولهذا قال عليه السلام : { } { بعثت لأتمم مكارم الأخلاق } إلى قوله : { ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا } يريد عليه السلام أن الله عز وجل أجرى على يده وصف الكمال ونكتة التمام . ويلزم من حصول نكتة الكمال حصول ما قبلها من الأصل دون العكس . فكنت أنا تلك اللبنة
واعلم أن مذهب أهل السنة أن أحكامه تعالى غير معللة بمعنى أنه لا يفعل شيئا لغرض ، ولا يبعثه شيء على فعل شيء ، بل هو الله تعالى قادر على إيجاد المصلحة بدون أسبابها وإعدام المضار بدون دوافعها . وقال الفقهاء : الأحكام معللة ولم يخالفوا أهل السنة بل عنوا بالتعليل الحكمة وتحجر المعتزلة ومن وافقهم من الفقهاء واسعا فزعموا : أن تصرفه تعالى مقيد بالحكمة مضيق بوجه المصلحة . وفي كلام الحنفية ما يجنح إليه ، ولهذا عندنا خلافا لهم ، وكذا يتعين الماء في إزالة النجاسة خلافا لهم . [ ص: 158 ] والحق أن رعاية الحكمة لأفعال الله وأحكامه جائز واقع ولم ينكره أحد ، وإنما أنكرت نبيذ التمر لا يتوضأ به الأشعرية العلة والغرض والتحسين العقلي ورعاية الأصلح ، والفرق بين هذه ورعاية الحكمة واضح ، ولخفاء الغرض وقع الخبط . وإذا أردت معرفة الحكمة في أمر كوني أو ديني أو شرعي فانظر إلى ما يترتب عليه من الغايات في جزئيات الكونيات والدينيات متعرفا بها من النقل الصحيح نحو قوله تعالى : { لنريه من آياتنا } في حكمة الإسراء وبملاحظة هذا القانون يتضح كثير من الإشكال ويطلع على لطف ذي الجلال .
وقرر ابن رحال في " شرح المقترح " الإجمال بطريق آخر فقال : قال أصحابنا : الدليل على أن الأحكام كلها شرعية لمصالح العباد ، إجماع الأمة على ذلك ، إما على جهة اللطف والفضل على أصلنا ، أو على جهة الوجوب على أصل المعتزلة ، فنحن نقول : هي وإن كانت معتبرة في الشرع لكنه ليس بطريق الوجوب ، ولا لأن خلو الأحكام من المصالح يمتنع في العقل كما يقول المعتزلة ، وإنما نقول رعاية هذه المصلحة أمر واقع في الشرع ، وكان يجوز في العقل أن لا يقع كسائر الأمور العادية . ثم القائل بالوجوب ما يريد ما هو المفهوم من الوجوب الشرعي ، ولكن معناه عنده أن نقيضه يمتنع على الباري ، كما يجب وصفه بالعلم لأن نقيضه - وهو الجهل - ممتنع ، وعلى هذه الطريقة ينزل كلام وغيره ويرتفع الإشكال . وقال بعض المتأخرين : اشتهر عند ابن الحاجب المتكلمين أن أحكام الله تعالى لا تعلل واشتهر عند الفقهاء التعليل وأن العلة بمعنى الباعث ، ويتوهم كثير من الناس أنها الباعث للشرع فيتناقض كلام الفقهاء وكلام المتكلمين وليس كذلك ولا تناقض بل المراد أن العلة باعثة على فعل المكلف ، مثاله حفظ النفوس فإنه علة باعثة على القصاص الذي هو فعل المكلف المحكوم به من جهة الشرع ، فحكم الشرع لا علة له ولا باعث عليه ، لأنه قادر أن يحفظ النفوس بغير [ ص: 159 ] ذلك ، وإنما يتعلق أمره بحفظ النفوس ، وهو مقصود في نفسه وبالقصاص ، لأنه وسيلة إليه فكلاهما مقصود للشارع : حفظ النفوس قصد المقاصد ، والقصاص قصد الوسائل ، وأجرى الله العادة أن القصاص سبب للحفظ . فإذا قصد بأداء فعل المكلف من السلطان والقاضي وولي الدم القصاص ، وانقاد إليه القاتل امتثالا لأمر الله تعالى ووسيلة إلى حفظ النفوس ، كان له أجران أجر على القصاص وأجر على حفظ النفوس ، وكلاهما مأجور به من جهة الله تعالى ، أحدهما بقوله : { كتب عليكم القصاص } والثاني : إما بالاستنباط أو بالإيمان بقوله : { ولكم في القصاص حياة } . وهكذا يستعمل ذلك في جميع الشريعة ومن هنا نبين أن كل حكم معقول المعنى فللشارع فيه مقصودان :
أحدهما : ذلك المعنى .
والثاني : الفعل الذي هو طريق إليه وأمر المكلف أن يفعله قاصدا به ذلك المعنى ، فالمعنى باعث له لا للشارع . ومن هنا تعرف أن الظاهرية فاتهم نصف التفقه ونصف الأجر ، وتعرف أن الحكم المعقول المعنى أكثر أجرا من التعبدي ، نعم التعبدي فيه معنى آخر وهو أن النفوس لا حظ لها فيه فقد يكون الأجر الواحد يعدل الأجرين اللذين في الحكم غير التعبدي ، وتعرف به أيضا أن العلة القاصرة سواء فيها المستنبطة والمنصوص عليه .
فائدة :
بعين كل مسألة ثلاث مراتب : حكم الله بالقصاص ، ونفس القصاص وحفظ النفوس ، وهو باعث على الثاني لا الأول ، وكذا حفظ المال بقطع السرقة ، وحفظ العقل باجتناب الخمر ونحوه ، وكان بعضهم يجمع بينهما ويقول في تفسير المتكلمين : إن الأحكام وقعت على وفق المصالح لا أنها علة لها ، وهذا وحده لا ينشرح له الصدر . انتهى . [ ص: 160 ] نعم حكاية الإجماع مردودة فإن أبا الحسين بن القطان من قدماء أصحابنا اختار في كتابه أن الأحكام جميعها إنما ثبتت بالعلة ، إلا أن منها ما يقف على معناه ، ومنها ما لا يقف ، وليس إذا خفيت علينا العلة أن يدل على عدمها ، فقد أوجب الله تعالى علينا السعي والاضطباع لعلة سبقت في غيرنا . ثم قال : وذهب بعض الحنفية إلى أنه ليس كل الأحكام تعلل ، بل منها ما هو لعلة ، ومنها ما ليس له علة .
قال : وهذا خطأ ، لأن الواضع حكيم . وحكى ابن الصلاح في " فوائد رحلته " ، عن كتاب العلل في " الأحكام " للقاسم بن محمد الزجاج تلميذ أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا : اختلف القياسون في العلل ، فقال قوم منهم بنفي العلل ، وزعموا أن تشبيه الشيء بالشيء على ما يغلب في النفس ، لا أن ثم له علة توجب الجمع بين الشيئين ، وزعموا أنه لم ينقل لهم عن أحد من الصحابة العلل ، وقد حكي عن جميعهم القياس ، فقلنا بالتشبيه إذ هو منقول عنهم ولم يعلل بالعلل . قال : واختلفوا في أن كل حكم لا بد له من علة ، فقال قوم : ما أعلمنا الله علته قلنا : إنه لعلة ، وما لم يعلمنا علته لم نقطع أنه لعلة بل جوزنا فيه أحد الأمرين . قال : وهذا عندي هو الأصح . انتهى . وقال الإمام الرازي في " الأربعين " : اتفقت المعتزلة على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة برعاية مصالح العباد ، وهو اختيار المتأخرين من الفقهاء . وهو عندنا باطل .
إلى آخره [ ص: 161 ] وقال إلكيا : فصل : في أن ذهب بعضهم إلى امتناع أن يتعبد الله عباده بما لا استصلاح فيه . وهذا قول مرغوب عنه . ونحن وإن جوزنا أن يتعبد الله عباده بما شاء ، ولكن الذي عرفناه من الشرائع أنها وضعت على الاستصلاح ، دلت آيات الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ملاءمة الشرع للعبادات الجبلية والسياسات الفاضلة وأنها لا تنفك عن مصلحة عاجلة وآجلة . قال الله تعالى : { الأحكام الشرعية هل وضعت لعلل حكمية أم لا ؟ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة } وقال { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } وهذا كله يدل على أنه تعالى إنما تعبدهم بالشرائع لاستصلاح العباد ، وهذا لا يعلم إلا بالشرع ، وأن العقل لا يدل على أن عند وقوع أحد الفعلين يقع الآخر على سبيل الاختيار إذا لم يكن المختار ممن ثبتت حكمته ، فإذا صح ذلك السمع فأحدها القياس على ما سنبينه .
ثم الأحكام الشرعية تنقسم إلى ما اطلعنا عليه وعلى وجه الحكمة فيه بأدلة موضوعة من النص تارة ، ومن مفهوم وتنبيه وسير وإيجاز ، ومنها ما لا يطلع فيه على وجه الحكمة الخفية ، وهي من ألطاف الله التي لا يطلع عليها ، فمن هاهنا تخصيص التكاليف بوقت دون وقت ، وتخصيص بعض الأفعال بالندب ، وبعضها بالوجوب ، وهذه المصالح بحسب المعلوم من حال المتعبدين به واحدا اختلف الأفعال من الله تعالى في النقل من شريعة إلى أخرى ، وقد بنى الله أمور عباده على أن عرفهم معاني دلائلها وجملها ، وغيب عنهم معاني دقائقها وتفاصيلها ، كما إذا رأينا رجلين عليلين تفاوتت عللهما عرفنا الوجه في افتراقهما ، ولو سألنا عن تعداد الاختلاف جهلنا وهذا فن يهون بسطه . [ ص: 162 ] إذا عرفت هذا فيه خلاف سيأتي . فقيل : لله أن يتعبد بذلك والصحيح خلافه ، فإن هذه الأحكام إذا وضعت لمصالح العباد يجوز أن يختار الفساد والصلاح جميعا وليس اختياره علما على الصواب ، وبمثله لم يجز فهل يجوز أن يقول الله لرسوله : احكم فكل ما حكمت هو الصواب ؟ أو يأمر عامة الخلق أن يحكموا بما عن لهم ، أو بعض العالم من غير اجتهاد ؟ ، فكما يجوز تفويض الأمر إلينا في الخبر على اتفاق الصدق فكذلك القول في المصلحة . قال : والفرق بينه وبين الاجتهاد أن الأمارة على التعبد به مقطوع بها ، والظن مبني على أمارة تفضي إلى الظن قطعا ، وهنا بخلافه ، إذ لا أمارة . ورود التعبد بتصديق نبي من غير أمارة
إذا علمت ذلك فما ذكرناه من اشتمال كليات الشرع وجزئياته على المصالح وانقسامها إلى ما يلوح للعباد وإلى ما يخفى عليهم لا خلاف فيه ، ولكن اختلفوا وراء ذلك في القياس الشرعي وأنه من مدارك الأحكام أو من القول بالشبه المحض ، والذين ردوا القياس اختلفوا فيه ، فقيل : لا يجوز ورود التعبد به أصلا ، وقيل : يجوز ولكن يمتنع ورود التعبد ، قال : ويمتنع ورود التعبد بالقياس في جميع الحوادث لأنه لا بد من أصول تعلل وتحمل الفروع عليها ، ولهذا قلنا : إنه مظنون من حيث إن جهات المصالح مغيبة عنا ، فلا وصول إلى المعنى الواحد من بين المعاني على وجه يعلم أنه الأصلح دون ما سواه قطعا ، ولأجله تفاوتت الآراء ، وإنما اعتبرنا الأصول السمعية لصحة القياس لأنه لا يجوز ، ولا يجوز أن يتوصل إلى أحكامها بالأمارات التي يتوصل بمثلها إلى مصالح الدنيا ، لأن لها أمارات معلومة بالعادة . انتهى . رد الفرع إلى الأصول العقلية